بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح111) مشروع الدستور – الاجتهاد فرض كفاية
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنْعَامْ, وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ, وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ, وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ, والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ, خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ, وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ, الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ, وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ, وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا “بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام” وَمَعَ الحَلْقَةِ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ بَعدَ المِائَةِ, وَعُنوَانُهَا: “مَشرُوعُ الدُّستُورِ – نِظَامُ الحُكْمِ”. نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَةِ الثَّالِثَةِ وَالتِّسعِينَ مِنْ كِتَابِ “نظامُ الإسلام” لِلعَالِمِ والـمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:
المادة 9 – الاجتِهَادُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَلِكُلِّ مُسلِمٍ الحَقُّ بِالاجتِهَادِ إِذَا تَوَفَّرَتْ فِيهِ شُرُوطُهُ.
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: أعَدَّ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ هُوَ وَإِخوَانُهُ العُلَمَاءُ فِي حِزْبِ التَّحرِيرِ دُستُورَ الدَوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ حَتَّى يَدرُسَهُ الـمُسلِمُونَ وَهُمْ يَعْمَلُونَ لإِقَامَتِهَا, وَهَا هُوَ يُوَاصِلُ عَرْضَهُ عَلَيهِمْ, وَهَذِهِ هي الـمَادَّةَ التَّاسِعَةُ, وَإِلَيكُمْ أَدِلَّةَ هَذِهِ الـمَّادَّةِ مِنْ خِلَالِ النُّقَاطِ الآتِيَةِ:
- لَقَدْ جَعَلَتِ الشَّرِيعَةُ الإِسلَامِيَّةُ الاجتِهَادَ لِاستِنبَاطِ الأَحكَامِ الشَّرعِيَّةِ مِنْ خِطَابِ الشَّارِعِ – أَيْ مِنَ النُّصُوصِ الَّتِي أَوْحَى اللهُ بِهَا إِلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم – فرضًا عَلَى الـمُسلِمِينَ.
- وَقَد ثَبَتَ كَونُ الاجتِهَادِ فَرضًا بِأَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةٍ، قَالَ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ مِنْ طَرِيقِ عَمْروِ بنِ العَاصِ وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ» أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَالحَاكِمُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، فَهُوَ يُفِيدُ التَّأكِيدَ عَلَى أَنْ يَكُونَ القَاضِي عَالِمًا بِمَا يَقضِي. وَرُوِيَ عَنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لابنِ مَسْعُودٍ: «اقْضِ بِالْكِتَابِ وَالسُّـنَّةِ إِذَا وَجَدْتَهُمَا، فَإِذَا لَمْ تَجِدِ الحُكْمَ فِيهِمَا فَاجْتَهِدْ رَأْيَكَ» ذَكَرَهُ الآمِدِيُّ فِي الأَحكَامِ، وَالرَّازِيُّ فِي الـمَحصُولِ.
- وَرُوِيَ عَنهُ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى الأَشعَرِيِّ وَقَد أَنفَذَهُمَا إِلَى اليَمَنِ: «بِمَ تَقْضِيَانِ؟ فَقَالاَ: إِنْ لَمْ نَجْدِ الْحُكْمَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّـنَّةِ قِسْـنَا الأَمْرَ بِالأَمْرِ، فَمَا كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الحَقِّ عَمِلْنَا بِهَ» ذَكَرَهُ الآمِدِيُّ فِي الأَحكَامِ، وَأَبُو الحُسَينِ فِي الـمُعتَمَدِ. وَهَذَا القِيَاسُ مِنهُمَا هُوَ اجتِهَادٌ لِاستِنبَاطِ الحُكْمِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَقَرَّهُمَا عَلَيهِ.
- وَرُوِيَ عَنهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاذٍ حِينَ أَرسَلَهُ وَاليًا إِلَى اليَمَنِ: «كَيْفَ تَقْضِي إِنْ عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟ قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: فَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلاَ آلُوْ. قَالَ: فَضَرَبَ صَدْرِي فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا يُرْضِي رَسُولَهُ» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ. وَصَحَّحَهُ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ البَصرَوِيُّ, وَقَالَ هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ مَشهُورٌ اعتَمَدَ عَلَيهِ أَئِمَّةُ الإِسلَامِ.
- وَهَذَا صَـِريحٌ فِي إِقْـَرارِ الرَّسُـولِ صلى الله عليه وسلم لِـمُعَاذٍ عَلَى الاجتِهَـادِ.
- وَأَيضـًا فَإِنَّ مَعـْرِفَةَ الأَحْكَامِ مُتَعَلِّقٌ وَمُرتَبِطٌ بِالاجتِهَادِ، بِحَيثُ لَا يُمكِنُ إِدْرَاكُ الأَحْكَامِ وَمَعْـرِفَتُهَا دُونَهُ، فَصَـارَ الاجتِهَـادُ فَـْرضـًا؛ لِأَنَّ القَاعِدَةَ الشَّرعِيَّةَ: (مَا لَا يَتِمُّ الوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ).
- وَالأَصْلُ فِي استِنبَاطِ الأَحْكَامِ أَنْ يَكُونَ لِلمُجتَهِدِينَ؛ لِأَنَّ مَعرِفَةَ حُكْمِ اللهِ فِي الـمَسأَلَةِ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالاجتِهَادِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الاجتِهَادِ.
- وَقَدْ نَصَّ عُلَمَاءُ أُصُولِ الفِقْهِ عَلَى أَنَّ الاجتِهَادَ فَرضُ كِفَايَةٍ عَلَى الـمُسلِمِينَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ عَصْرٌ مِنَ الأَعْصَارِ مِنْ مُجتَهِدٍ، وَإِذَا اتَّفَقَ الكُلُّ عَلَى تَرْكِ الاجتِهَادِ أَثِمُوا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ طَرِيقَ مَعرِفَةِ الأَحْكَامِ الشَّرعِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ الاجتِهَادُ، فَلَو خَلَا العَصْرُ مِنْ مُجتَهِدٍ يُمكِنُ الاستِنَادُ إِلَيهِ فِي مَعرِفَةِ الأَحْكَامِ أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى تَعطِيلِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ.
- عَلَى أَنَّ النُّصُوصَ الشَّرعِيَّةَ تَستَوجِبُ مِنَ الـمُسلِمِينَ الاجتِهَادَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ النُّصُوصَ الشَّرعِيَّةَ، وَهِيَ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَيسَ غَيرُ، لَـمْ تَأْتِ مُفَصَّلَةً، وَإِنَّما جَاءَتْ مُجْمَلَةً تَنطَبِقُ عَلَى جَمِيعِ وَقَائِعِ بَنِي الإِنسَانِ. وَيَحتَاجُ فَهْمُهَا وَاستِنبَاطُ حُكْمِ اللهِ فِيهَا إِلَى بَذْلِ الجُهْدِ لِأَخْذِ الحُكْمِ الشَّرعِيِّ مِنهَا لِكُلِّ حَادِثَةٍ.
- وَهَذَا الاجتِهَادُ لَيسَ بِالأَمْرِ الـمُستَحِيلِ، وَلَا بِالأَمْرِ البَالِغِ الصُّعُوبَةِ، إِذْ هُوَ بَذْلُ الوُسْعِ فِي طَلَبِ الظَّنِّ بِشَيءٍ مِنَ الأَحْكَامِ الشَّرعِيَّةِ، أَيْ هُوَ فَهْمُ النُّصُوصِ الشَّرعِيَّةِ مَعَ بَذْلِ أَقْصَى الجُهْدِ فِي سَبِيلِ الوُصُولِ إِلَى هَذَا الفَهْمِ لِمَعرِفَةِ الحُكْمِ الشَّرعِيِّ، وَهَذَا مِمْكِنٌ لِمَنْ عِندَهُ القُدْرَةُ أَيْ غَيرُ مُستَحِيلٍ.
- وَقَد كَانَ الاجتِهَادُ عِندَ الـمُسلِمِينَ فِي العُصُورِ الأُولَى طَبِيعِيًّا وَبَدِيهِيًّا، وَلَم تَكُنْ لَهُ أَيُّ شُرُوطٍ، إِلَّا أَنَّهُ مُنذُ فَسَدَ اللِّسَانُ العَرَبِيُّ، وَبَعُدَ النَّاسُ عَنِ التَّفَرُّغِ لِفَهْمِ الدِّينِ، صَارَ لَا بُدَّ لِلمُجتَهِدِ مِنْ مَعرِفَةِ الأَدِلَّةِ السَّمعِيَّةِ الَّتِي تُستَنبَطُ مِنهَا القَوَاعِدُ وَالأَحْكَامُ، وَلَا بُدَّ لَهُ كَذَلِكَ مِنْ مَعرِفَةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ الـمُعْتَدِّ بِهَا فِي لِسَانِ العَرَبِ وَاستِعْمَالِ البُلَغَاءِ.
- وَمَا عَدَا هَذَينِ الشَّرطَينِ لَا يُوجَدُ أَيُّ شَرْطٍ لِلاجتِهَادِ. وَلِهَذَا كَانَ الاجتِهَادُ، إِلَى جَانِبِ كَونِهِ فَرْضَ كِفَايَةٍ عَلَى الـمُسلِمِينَ، أَمْرًا مُمكِنًا بِالنِّسْبَةِ لِجَمِيعِ الـمُسلِمِينَ. وَهَذِهِ كُلُّهَا هِيَ أَدِلَّةُ هَذِهِ الـمَادَّةِ.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم عَلى حُسنِ استِمَاعِكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.