بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام (ح 118) إجماعُ المسلمين, وجَلَبُ المصالِحِ, وَدَرْءُ المَفَاسِدِ ليست من الأدلةِ الشرعيةِ المعتبرة
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح 118) إجماعُ المسلمين, وجَلَبُ المصالِحِ, وَدَرْءُ المَفَاسِدِ ليست من الأدلةِ الشرعيةِ المعتبرة
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنْعَامْ, وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ, وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ, وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ, والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ, خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ, وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ, الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ, وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ, وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا “بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام” وَمَعَ الحَلْقَةِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ بَعدَ المِائَةِ, وَعُنوَانُهَا: “مَشرُوعُ الدُّستُورِ – نِظَامُ الحُكْمِ”. نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَةِ الرَّابِعَةِ وَالتِّسعِينَ مِنْ كِتَابِ “نظامُ الإسلام” لِلعَالِمِ والـمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:
المادة 12: الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالقِيَاسُ هِيَ وَحْدَهَا الأَدِلَّةُ الـمُعتَبَرَةُ لِلأَحْكَامِ الشَّرعِيَّةِ.
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ:أعَدَّ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ هُوَ وَإِخوَانُهُ العُلَمَاءُ فِي حِزْبِ التَّحرِيرِ دُستُورَ الدَوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ حَتَّى يَدرُسَهُ الـمُسلِمُونَ وَهُمْ يَعْمَلُونَ لإِقَامَتِهَا, وَهَا هُوَ يُوَاصِلُ عَرْضَهُ عَلَيهِمْ, وَهَذِهِ هي الـمَادَّةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ.
فَبَعْدَ أن عَرَضَ الشَّيخُ-رَحِمَهُ اللهُ- الأَدِلَّةَ الأَربَعَةَ الـمُعتَبَرَةَ لِلأَحكَامِ الشَّرعِيَّةِ, وهي: الكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وَالقِيَاسُ، شَرَعَ – كَعَادَتِهِ دَائِمًا – بِوَضْعِ الخَطِّ الـمُستَقِيمِ إِلَى جَانِبِ الْـخُطوطِ الْمُعْوَجة, فَوَضَعَ هَذِهِ الأَدِلَّةَ الـمُعتَبَرَةَ, وَوَضَعَ إِلَى جَانِبِهَا الأَدِلَّةَ غَيرَ الـمُعتَبَرَةِ, وَبَدَأَ بِإِجْمَاعِ الـمُسلِمِينَ, وجَلْبِ الـمَصَالِحِ وَدَرءِ الـمَفَاسِدِ, وَإِلَيكُمْ بَيَانَ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ مَقَدِّمَةِ الدُّستُورِ:
مَنْ قَالَ: إِنَّ إِجْمَاعَ الـمُسلِمِينَ دَلِيلٌ شَرعِيُّ استَدَلَّ بِقَولِهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلاَلَةٍ» قَالَ ابنُ حَجَر:”حَدِيثٌ مَشْهُورٌ لَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ لَا يَخلُو وَاحِدٌ مِنهَا مِنْ مَقَالٍ، وَعَلَى كُلٍّ، فَلَيسَ فِي هَذَا دَلِيلٌ؛ لِأَنَّ الضَّلَالَةَ هُنَا الارتِدَادُ عَنِ الدِّينِ, وَلَيسَ الخَطَأَ، وَبِهَذَا الـمَعنَى وَرَدَ الحَدِيثُ «لَنْ تَجْتَمِعَ أُمَّتِى عَلَى ضَلاَلَةٍ، فَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ». رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ مِنْ طَرِيقِ ابنِ عُمَرَ، وَهُو صَحِيحٌ، فَإِنَّ الأُمَّةَ الإِسلَامِيَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى الارتِدَادِ عَنِ الإِسلَامِ، وَلَكِنَّهَا قَدْ تَجْتَمِعُ عَلَى خَطَأٍ، وَأَبْسَطُ دَلِيلٍ عَلَى هَذَا هُوَ أَنَّ الأُمَّةَ الإِسلَامِيَّةَ قَدْ أَجْمَعَتْ عَلَى تَرْكِ العَمَلِ لِإِقَامَةِ خَلِيفَةٍ مُدَّةً كَبِيرَةً، وَهُوَ إِجْمَاعٌ عَلَى خَطَأٍ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ جَلْبَ الـمَصَالـِحِ وَدَرْءَ الـمَفَاسِدِ عِلَّةٌ شَرعِيَّةٌ لِلأَحْكَامِ الشَّرعِيَّةِ وَأَجْرَى القِيَاسَ بِحَسَبِهَا، فَقَدِ استَدَلَّ بِقَولِهِ تَعَالَى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلعَالَـمِينَ). (الأنبياء 107) فَجَعَلَ كَونَهُ رَحْمَةً عِلَّةً لِلشَّريِعَةِ الإِسلَامِيَّةِ، وَلَا يَكُونُ رَحْمَةً إِلَّا بِجَلْبِ الـمَصَالـِحِ وَدَرءِ الـمَفَاسِدِ، فَكَانَتَا العَلَّةَ الشَّرعِيَّةَ لِلأَحْكَامِ. وَهَذَا الاستِدلَالُ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَينِ:
الوَجْهُ الأَوَّلُ: أَنَّ الـمَوضُوعَ هُوَ إِرسَالُهُ، أَيْ كَونُهُ رَسُولًا، وَلَيسَ الأَحْكَامَ الشَّرعِيَّةَ، وَلَو سُلِّمَ أَنَّ الـمُرَادَ مِنْ إِرسَالِهِ رِسَالَتَهُ، وَهِيَ شَرِيعَتُهُ، فَإِنَّ الـمَوضُوعَ يَكُونُ الشَّرِيعَةَ كُلَّهَا مِنْ عَقَائِدَ وَأَحْكَامٍ بِمَجْمُوعِهَا, وَلَيسَ الأَحْكَامَ الشَّرعِيَّةَ وَحْدَهَا.
الوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ كَونَ إِرسَالِهِ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَحْمَةً لِلعَالَـمِينَ إِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ لِلحِكْمَةِ مِنْ إِرسَالِهِ، أَيِ النَّتِيجَةُ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى إِرْسَالِهِ. وَذَلِكَ مِثلُ قَولِهِ تَعَالَى: (وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعبُدُونِ). (الذاريات 56)، أَيْ لِتَكُونَ نَتِيجَةُ خَلْقِهِمُ العِبَادَةَ، فَهِيَ حِكْمَةُ خَلقِهِمْ, وَلَيسَتْ عِلَّةَ خَلْقِهِمْ. وَمِثلُ قَولِهِ تَعَالَى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لـَهُمْ). (الحج 28) فَهُوَ الحِكْمَةُ مِنَ الحَجِّ، أَيِ النَّتِيجَةُ الَّتِي قَدْ تَحصُلُ مِنَ الحَجِّ، وَقَولِهِ: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنهَى عَنِ الفَحْشَاءَ وَالـمُنكَرِ). (العنكبوت 45) فَهِيَ الحِكْمَةُ مِنَ الصَّلَاةِ، أَيِ النَّتِيجَةُ الَّتِي قَدْ تَحصُلُ مِنَ الصَّلَاةِ. وَهَكَذَا. فَالآيَةُ هُنَا لَيسَتْ فِي مَقَامِ التَّعْلِيلِ؛ لِأَنَّ العِلَّةَ هِيَ الشَّيءُ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ وُجِدَ الحُكْمُ أَيْ شُرِّعَ.
وَحَتَّى تُفْهَمَ العِلِّيَّةُ فِي النَّصِّ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ وَصْفًا، وَأَنْ يَكُونَ هَذَا الوَصْفُ مُفْهِمًا العِلِّيَّةَ، بِمَعْنَى سَبَبِيَّةِ التَّشرِيعِ، أَيْ أَنَّ التَّشرِيعَ كَانَ مِنْ أَجْلِهَا، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ لازِمَةً لَا تَتَخَلَّفُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ يُنتِجُ الـمُسَبَّبَ حَتْمًا؛ وَلِذَلِكَ إِذَا وُجِدَتِ العِلَّةُ وُجِدَ الـمَعلُولُ.
وَفِي قَولِهِ: (رَحْمَةً لِلعَالَـمِينَ).(الأنبياء 107) وِبَقِيَّةِ الآيَاتِ السَّابِقَةِ وَإِنْ كَانَتْ وَصْفًا، وَفِيهَا الحُرُوفُ الَّتِي تُفِيدُ التَّعلِيلَ، وَلَكِنَّ سِيَاقُ الكَلَامِ لَا يُفِيدُ العِلِّيَّةَ؛ لأَنَّهُ قَدْ يَتَخَلَّفُ، وَلِأَنَّ التَّشرِيعَ لَـمْ يَكُنْ مِنْ أَجْلِهَا. فَالشَّرِيعَةُ الإِسلَامِيَّةُ قَد تَكُونُ رَحْمَةً لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ بِهَا كَالـمُسلِمِينَ الأَوَّلِينَ، وَنَقْمَةً لِمَنْ كَفَرَ بِهَا كَالكُفَّارِ. فَإِرسَالُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم قَدْ كَانَ نَقْمَةً عَلَى الكُفَّارِ وَهُمْ مِنَ العَالَـمِينَ. وَأَيضًا فَإِنَّ الرِّسَالَةَ الإِسلَامِيَّةَ مَوجُودَةٌ اليَومَ، إِذِ الإِرسَالُ قَدْ حَصَلَ بِالفِعْلِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الـمُسلِمِينَ أَنفُسَهُمْ الَّذِينَ آمَنُوا بِالرِّسَالَةِ، وَلَكِنْ لَـمْ يُطَبِّقُوهَا قَدْ أَصبَحُوا فِي شَقَاءٍ، فَلَمْ يَكُنْ مُـجَرَّدُ الإِرسَالِ أَيْ مُـجَرَّدُ وُجُودِ الشَّرِيعَةِ رَحْمَةً؛ وَلِذَلِكَ لَيسَتْ عِلَّةً لِلإِرسَالِ. وَعَلَيهِ لَا يَكُونُ جَلْبُ الـمَصَالِـحِ وَدَرْءُ الـمَفَاسِدِ عِلَّةً شَرعِيَّةً، فَلَا تُتَّخَذُ أَصْلاً لِلقِيَاسِ.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم عَلى حُسنِ استِمَاعِكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.