جواب سؤال
التاركون وتأخر النصر!
السؤال: المعذرة إن كان في هذا السؤال حساسية، وبخاصة الشق الثاني منه، ولكنه يتكرر في النفس منذ فترة… وعلى كل، فإن كان هناك جواب فخير، وإن لم يكن فخير، وأنا أدرك أن المسئول أقدر من السائل على تقدير الظرف المناسب للجواب في مثل هذه الحالة… وسؤالي من شقين:
أما الشق الأول فهو: لقد مضى على الحزب أكثر من 60 سنة وهو يعمل في ظروف صعبة، قلَّما تعرضت لها أية جماعة، وقد لا يستطيع حمل هذه الأمانة جميع الشباب فيترك بعضهم… فلماذا لا تُقدَّر ظروفهم ويُلتمس لهم العذر بدل أن تُتَّخذ تجاه التاركين مواقف “غير هادئة”؟
والشق الثاني من السؤال هو: ألا تعني هذه السنين الطوال دون الوصول إلى الهدف، ألا تعني عدم إحسان طلب النصرة؟
وأكرر ما قلته في البداية أنني أقدر حساسية السؤال وبخاصة الشق الثاني منه… فإن كان هناك جواب فخير، وإن لم يكن فخير… وأنا أسأل وقلبي مليء بالحب للحزب وأرى صواب فكرته وطريقته، ولا أريد من السؤال إلا الخير، وليس التشويش أو الشغب… والله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
نعم إن في الشق الثاني من السؤال حساسية… ولعل المكان المناسب هو ليس في جواب سؤالٍ يُنشر ولكن في لقاء… لكن قاتل الله الطغاة الظلمة الذين يلاحقون كلمة الحق وأهلها حيثما كانوا… ويذرون السوء وأهله يسرحون ويمرحون…
على كلٍّ، هذه سيرة الدعاة إلى الحق من الأنبياء والصالحين في جميع العصور التي يسود فيها الطغاة والظلمة والرويبضات… ولكن العاقبة للمتقين.
لقد تعرضنا فيما سبق لمثل هذا السؤال تلميحاً أو تصريحاً ولكن من أقوام حاقدين على الإسلام وأهله لا يسألون لمعرفة الحق وإنما فقط للتشويش وخدمة شياطين الإنس وأشياعهم من أجل لعاعة من دنيا يصيبونها… فكنا لا ننشغل بجوابهم لأنهم لا يسألون لمعرفة الحق فينفعهم الجواب، بل للمناكفة وتحريف الكلام عن مواضعه لإثارة الفتنة دون أن يدركوا بأنهم في الفتنة أركسوا!… ولهذا لم نكن نلقي بالاً لأسئلتهم.
ولكني في سؤالك لاحظت صدق اللهجة وأدب السؤال وحسن الحديث، لهذا فإني أجيبك ولكن بقَدَرٍ مُفهمٍ إن شاء الله، وبخاصة بالنسبة للشق الثاني من السؤال دون الدخول في تفاصيل ليس هذا موضعها، فأقول وبالله التوفيق:
1- جواب الشق الأول من السؤال:
إن عبارة مواقف “غير هادئة” كما جاءت في السؤال غير واضحة ولعل المقصود حالات خاصة لبعض التاركين الذين لا نتعاطف معهم ولا نلقي لهم بالاً لسوء فعالهم… فإن كان ما فهمته صحيحاً فالمسألة كما يلي:
نحن نتفهم أن لا يستطيع شاب أن يقوم بأعباء حمل الدعوة لظروف لديه وبخاصة في هذا الزمن الذي تحيط فيه بالدعوة صعاب متراكمة، بعضها فوق بعض، فقد ينوء ثقل حمل الدعوة ببعض الشباب فيتقاعس عن حملها ويضعف أمام صعابها، ويتغلب عنده حب الدنيا وزينتها على رضوان الله وحب الآخرة… وإذا سألته لماذا تركت صدقك القول بأنه في ظروف لا تمكِّنه من حمل الدعوة وسيحاول التغلب عليها ليعود ثانية بإذن الله… نحن نتفهم واقع هؤلاء، ونبقي العلاقة حسنة معهم وندعو لهم بأن يهديهم الله إلى أرشد أمرهم فيعودوا لحمل الدعوة ويعوضوا إثم قعودهم بخير فعالهم فإن الحسنات يذهبن السيئات بإذن الله.
أما الذين “لا نتعاطف معهم ولا نلقي لهم بالا لسوء فعالهم” وهو ما سميته في سؤالك “مواقف غير هادئة” فهم أولئك الذين ينحرفون فيتركون وبدل أن يستغفروا الله ويتوبوا إليه فيعوِّضوا قعودهم وانحرافهم بالفعل الحسن والقول الحسن، بدلاً من ذلك يبررون قعودهم وانحرافهم بكيل التهم المفتراة على الحزب وقيادته والمسئولين… ويستسهلون الكذب وهو كبير كبير في شرع الله… أخرج مسلم في صحيحه قال: … حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r «…وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا»… ومع ذلك يفترون ويكذبون! فلا يترك أحدهم فيريح ويستريح كما يقال، بل يبدأ بنشر الصحائف السود زوراً وبهتانا… هؤلاء هم الذين لا نتعاطف معهم ولا نلقي لهم بالاً لسوء فعالهم…
وأما أولئك الذين يصدقون القول بأنهم يضعفون عن هذا الحمل الثقيل لظروف عندهم فهؤلاء نتفهم وضعهم ونحسن القول معهم ونساعدهم إن استطعنا لاجتياز تلك الظروف…
وإليك هذه الحادثة التي أنا شاهد عليها:
عندما كنت مسئولاً في بعض البلدان جاءني من شيخنا الثاني يرحمه الله أن ألتقي بأحد التاركين وأبحث معه رجوعه لأن الرجل كان فيما سبق على خير ما نعلم وعياً وفهماً… فذهبت إليه:
قلت لماذا لا تعود للحزب؟ قال يا أبا ياسين “إني لست قوياً بما يكفي لهذا الحمل الثقيل فقد اعتقلت ولم أتحمل بضعة أيام فاستنكرت الحزب وخرجت فعلمت أن قدرتي أضعف من هذا الحمل الثقيل…” ومع أنني لم أنجح في إقناعه بالعودة لكنه بقي يؤيد الحزب ولا يعاديه… فمثل هذا الذي يصدق القول نحترمه وندعو له بخير… أما الذي يبرر ضعفه باتهام الآخرين، ويقول إنه ترك لأن المسئول فلاناً أو فلاناً كان كذا وكذا ويكيل له التهم بغير حق بل افتراء، ويظن أنه يحسن صنعا…! وبدل أن يستغفر الله ويتوب إليه تراه وهو تارك يناصب الحزب وقيادته العداء والافتراء دون خشية من الله المنتقم الجبار… فمثل هؤلاء التاركين لا يستحقون أن يُلتمس لهم عذر، بل نعم لا نتعاطف معهم ولا نلقي لهم بالاً لسوء فعالهم.
2- أما الشق الثاني من السؤال:
فقبل أن أجيبك فإني أمهد للجواب ببعض المعلومات عن طلب الرسول r للنصرة:
بعد وفاة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها التي كانت نعم العون له e، ثم مات أبو طالب عم الرسول r الذي كان يحمي الرسول r من أذى قريش، وكان ذلك في السنة العاشرة للبعثة، وقد سمي ذلك العام عام الحزن… بعد ذلك أكرم الله سبحانه رسوله r بأمرين عظيمين: الإسراء والمعراج، والإذن بطلب النصرة… فكان أن طلب الرسول r النصرة بضع عشرة مرة من ثقيف وبني عامر وبني شيبان وبني حنيفة… إلخ، ولم يستجب له صلوات الله وسلامه عليه أحد منهم، بل إن بعضهم رد الرسول r رداً سيئاً وأسالوا دمه صلوات الله وسلامه عليه… ثم فيما بعد أرسل r مصعباً إلى المدينة ففتح الله عليه واستجاب له من الأنصار جمعٌ من أهل القوة والمنعة جاءوا إلى مكة في الموسم وبايعوا بيعة النصرة، بيعة العقبة الثانية، ثم هاجر رسول الله r إلى المدينة وأقيمت الدولة.
والسؤال: هل كان رسول الله r لا يُحسن طلب النصرة ومن ثم لم يُستجب له؟ أو هل كان مصعب يُحسن طلب النصرة فوق إحسان رسول الله e؟ والجواب بالتأكيد هو النفي، وإنما لكل أجل كتاب ﴿إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾.
ونحن يا أخي نقتدي برسول الله e، فنجدّ ونجتهد في طلب النصرة، ونتابع الطلب بإحسان وإتقان ما وسعنا إلى ذلك من سبيل متكلين على الله سبحانه في كل الأمر، وندقق فيه ونمحصه للاطمئنان بتنفيذ الأمر على وجهه بإذن الله…
ولكننا نغذ السير في هذا السبيل وفي قلوبنا وعقولنا أمران:
الأول أنه مهما كان إحسان العمل لإقامة الخلافة فإن الله القوي العزيز هو الذي يقرر متى وأين يكون قيامها…
والثاني أن سنة الله تقتضي أن لا تقام الخلافة بأيدي الكسالى القاعدين، ولا أن تنزل ملائكة من السماء فتعمل لإقامة الخلافة نيابة عنا، بل تقام بإذن الله بسواعد المؤمنين العاملين الجادين المجدين الذين إذا عجَّل الله لهم النصر كانوا من الشاكرين، وإذا تأخر كانوا من الصابرين دون أن ييأسوا من رحمة الله، ودون أن يتقاعسوا عن العمل لإقامة حكم الله حتى يأتي أمر الله وهم كذلك…
والخلاصة:
1- ليس بالضرورة أن يكون تأخر النصر بإقامة الخلافة هو لأن طلب النصرة لم يتم إحسانه، فالرسول r طلب النصرة بضع عشرة مرة ولم يُستجب له، وهو r يُحسن العمل فوق الإحسان… ومصعب رضي الله عنه استجيب له مع أنه لا يحسن العمل كما يحسنه رسول الله e… فلكل أجل كتاب.
2- ونحن بإذن الله ندرك الأمور على وجهها، ونتابعها على الوجه الحسن… ونعمل وقلوبنا مطمئنة بتحقيق العزيز الحكيم لنا ما حققه سبحانه لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، فليس فقط “يؤوينا” بل “ويؤيدنا بنصره”، وكذلك “يرزقنا من الطيبات”، فالحمد لله رب العالمين.
وفي الختام فإني أقرئ السائل السلام وأدعو له بخير.
الأحد العاشر من شوال لعام 1439هـ
2018/06/24م