إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي
(ح 99)
أخذ الأرض ممن عطلها ثلاث سنين
الحمد لله الذي شرع للناس أحكام الرشاد, وحذرهم سبل الفساد, والصلاة والسلام على خير هاد, المبعوث رحمة للعباد, الذي جاهد في الله حق الجهاد, وعلى آله وأصحابه الأطهار الأمجاد, الذين طبقوا نظام الإسلام في الحكم والاجتماع والسياسة والاقتصاد, فاجعلنا اللهم معهم, واحشرنا في زمرتهم يوم يقوم الأشهاد يوم التناد, يوم يقوم الناس لرب العباد.
أيها المؤمنون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: نتابع معكم سلسلة حلقات كتابنا إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي, ومع الحلقة التاسعة والتسعين, وعنوانها: “أخذ الأرض ممن عطلها ثلاث سنين”. نتأمل فيها ما جاء في الصفحة الثامنة والثلاثين بعد المائة من كتاب النظام الاقتصادي في الإسلام للعالم والمفكر السياسي الشيخ تقي الدين النبهاني.
“وكذلك شأن من يقطعه الخليفة أرضا، فليس إذن في المحتجر والمقطع أرضا أية صفة خاصة عن باقي المالكين، تجعل أخذ الأرض إذ عطلت ثلاث سنين خاصا بهما، دون باقي المالكين، بأسباب أخرى من أسباب التملك للأرض. أو تجعل المحتجر والمقطع، كلا منهما قيدا لأخذ الأرض، إذا عطلت ثلاث سنين. أما كونه نص عليهما دون غيرهما، فلا يفهم معنى القيدية، لأنه ليس وصفا مفهما؛ لكون الأخذ لمن عطل إنما هو لأنه محتجر، أو لأنه أقطع، بل هو من قبيل النص على فرد من أفراد المطلق، وهو أخذ الأرض من مالكها إذا عطلها، فيكون النص عاما، ويكون ذكر المحتجر والمقطع ذكرا لفرد من الأفراد، لا قيدا يمنع غيرهما. على أنه إذا ورد النص في حادثة، ينظر فيه، فإن وردت فيه العلية، كان نصا عاما فيما علل فيه. والنص هنا تفهم منه العلية، وهو أن أخذ الأرض بعد ثلاث سنين لتعطيلها عن الزراعة، فيكون تعطيل الأرض ثلاث سنين هو علة أخذها. وعلى ذلك تكون علة أخذ الأرض من المحتجر هي كونه عطلها ثلاث سنين، وليس كونه محتجرا، ولا كونه محتجرا عطلها؛ لأن التحجير للأرض لا يفيد علية أخذها. لا منفردا ولا مقرونا مع التعطيل، بل تعطيلها وحده هو الذي يفيد علية أخذها. فيكون تعطيل الأرض علة تدور مع المعلول وجودا وعدما، فحيثما حصل تعطيل الأرض من مالكها ثلاث سنين أخذت منه، سواء أكان ملكها بالتحجير، أم بالإقطاع، أم بالإرث، أم غير ذلك. وإذا لم يعطلها المحتجر ثلاث سنين لا تؤخذ منه. على أن احتجار الأرض في قول عمر “وليس لمحتجر” هو كناية عن تملكها. إذ جرت عادة مالك الأرض أن يحجر الأرض، أي يحيط حدودها بحجارة لتعرف أنها ملكه، وتميز عن ملك غيره. ولا يشترط أن يضع حجارة حتى يقال: محتجر، بل لو وضع زرعا، أو شجرا على حدود الأرض، أو حفر حدودها، أو قام بأي عمل يدل على أنه وضع يده عليها، فإن ذلك كله يقال له احتجار، ويقال لمن يفعله بالأرض محتجر. ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: “من أحاط حائطا على أرض فهي له”. (رواه أبو داود في سننه عن سمرة) والذي يدل على أن احتجار الأرض هو كناية عن تملكها ما يرشد إليه معنى كلمة احتجر لغة. فإن اللغة تقول: “احتجر الشيء وضعه في حجره، أي حضنه. فاحتجر الأرض يعني حضنها بمعنى ملكها. وعلى هذا يكون معنى الحديث، ليس لمن حضن أرضا أي ملكها حق بعد ثلاث سنين، سواء وضع على حدودها حجارة، أم أحاط عليها حائطا، أو فعل أي شيء يدل على ملكيتها.
هذا بالنسبة للنص، أما بالنسبة لما سار عليه عمر، وسكت عنه سائر الصحابة، فإن عمر قد حكم بالأرض- التي أقطعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مزينة وعمرها غيرهم- لمن عمرها، ومنع مزينة من أخذها، وقال: “من عطل أرضا ثلاث سنين لم يعمرها، فجاء غيره فعمرها فهي له”. فهذا الكلام من عمر عام، إذ قال: “من عطل أرضا”. وقال لبلال بن الحارث المزني: “إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقطعك لتحجره على الناس، إنما أقطعك لتعمل، فخذ منها ما قدرت على عمارته، ورد الباقي”. رواه أبو عبيد في الأموال، وأخذ منه بالفعل ما عجز عن عمارته. وتخصيص هذا بالإقطاع وحده دون مخصص صريح لا يجوز، بل يبقى عاما. وأما كون الحادثة حصلت مع من أقطعها، فهي تعبير عن واقعة، وليست قيدا في هذه الحادثة. وعلى هذا، فإن كل مالك للأرض، إذا عطلها ثلاث سنين تؤخذ منه، وتعطى لغيره، مهما كان سبب ملكه للأرض، إذ العبرة بتعطيل الأرض، لا بسبب ملكيتها. ولا يقال: إن هذا أخذ لأموال الناس بغير حق؛ لأن الشرع جعل لملكية الأرض معنى غير معنى ملكية الأموال المنقولة، وغير معنى ملكية العقار، فجعل ملكيتها لزراعتها. فإذا عطلت المدة التي نص الشرع عليها ذهب معنى ملكيتها عن مالكها. وقد جعل الشرع تمليك الأرض للزراعة بالاعتمار، وتمليكها بالإقطاع، والميراث، والشراء وغير ذلك، وجعل تجريدها من صاحبها بالإهمال. كل ذلك من أجل دوام زراعة الأرض واستغلالها”.
وقبل أن نودعكم أحبتنا الكرام نذكركم بأبرز الأفكار التي تناولها موضوعنا لهذا اليوم: لقد بحث الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله مسألة أخذ الأرض ممن عطلها ثلاث سنين من ناحيتين: من ناحية النص الشرعي, ومن ناحية ما سار عليه الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
الناحية الأولى: من ناحية فهم النص الشرعي وهو أحاديث النبي المتعلقة بإحاطة الأرض وتحجيرها وأقطاعها وزراعتها, وقد توصل من خلالها إلى استنباط الأفكار الآتية:
1. ليس للمحتجر والمقطع أرضا أية صفة خاصة عن باقي المالكين تحول دون أخذ الأرض منه.
2. أخذ الأرض ممن عطلها ثلاث سنين ماض على المحتجر والمقطع أرضا وعلى باقي المالكين.
3. كون الشرع نص على المحتجر والمقطع دون غيرهما من قبيل النص على فرد من أفراد المطلق.
4. يكون النص عاما، ويكون ذكر المحتجر والمقطع ذكرا لفرد من الأفراد، لا قيدا يمنع غيرهما.
5. النص تفهم منه العلية. وهي أن أخذ الأرض بعد ثلاث سنين لتعطيلها عن الزراعة.
6. يكون تعطيل الأرض ثلاث سنين هو علة أخذها.
7. تكون علة أخذ الأرض من المحتجر هي كونه عطلها ثلاث سنين، وليس كونه محتجرا. ولا كونه محتجرا عطلها.
8. التحجير للأرض لا يفيد علية أخذها. لا منفردا ولا مقرونا مع التعطيل. بل تعطيلها وحده هو الذي يفيد علية أخذها.
9. يكون تعطيل الأرض علة تدور مع المعلول وجودا وعدما، فحيثما حصل تعطيل الأرض من مالكها ثلاث سنين أخذت منه.
10. احتجار الأرض في قول عمر “وليس لمحتجر” هو كناية عن تملكها.
11. جرت عادة مالك الأرض أن يحجر الأرض، أي يحيط حدودها بحجارة لتعرف أنها ملكه.
12. لا يشترط أن يضع حجارة حتى يقال محتجر, بل القيام بعمل يدل على أنه وضع يده عليها.
13. فإن ذلك كله يقال له احتجار، ويقال لمن يفعله بالأرض محتجر.
14. يقال في اللغة: “احتجر الشيء” وضعه في حجره، أي حضنه. فاحتجر الأرض يعني حضنها بمعنى ملكها.
الناحية الثانية: من ناحية ما سار عليه عمر بن الخطاب، وسكت عنه سائر الصحابة رضي الله عنهم.
1. حكم عمر بن الخطاب بالأرض التي أقطعها النبي إلى مزينة, وعمرها غيرهم لمن عمرها.
2. منع عمر بن الخطاب مزينة من أخذ الأرض التي أقطعها النبي لهم.
3. قال عمر بن الخطاب: “من عطل أرضا ثلاث سنين لم يعمرها، فجاء غيره فعمرها فهي له”.
4. قال عمر لبلال بن الحارث المزني: “إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقطعك لتحجره على الناس، إنما أقطعك لتعمل، فخذ منها ما قدرت على عمارته، ورد الباقي”.
5. كل مالك للأرض إذا عطلها ثلاث سنين تؤخذ منه وتعطى لغيره مهما كان سبب ملكه لها.
6. العبرة بتعطيل الأرض، لا بسبب ملكيتها.
7. جعل الشرع ملكية الأرض لزراعتها. فإذا عطلت المدة التي نص الشرع عليها ذهب معنى ملكيتها عن مالكها.
8. جعل الشرع تمليك الأرض بالاعتمار وبالإقطاع والميراث والشراء وغير ذلك.
9. جعل الشرع تجريد الأرض من صاحبها بالإهمال.
10. كل ذلك من أجل دوام زراعة الأرض واستغلالها.
أيها المؤمنون:
نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة, وللحديث بقية, موعدنا معكم في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى, فإلى ذلك الحين وإلى أن نلقاكم ودائما, نترككم في عناية الله وحفظه وأمنه, سائلين المولى تبارك وتعالى أن يعزنا بالإسلام, وأن يعز الإسلام بنا, وأن يكرمنا بنصره, وأن يقر أعيننا بقيام دولة الخلافة على منهاج النبوة في القريب العاجل, وأن يجعلنا من جنودها وشهودها وشهدائها, إنه ولي ذلك والقادر عليه. نشكركم, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.