سلسلة “الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي” – الحلقة الرابعة والستون: مقومات الدولة القانونية بين التصور الإسلامي والتصور الغربي
سلسلة “الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي”
للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك
الحلقة الرابعة والستون: مقومات الدولة القانونية بين التصور الإسلامي والتصور الغربي
للرجوع لصفحة الفهرس اضغط هنا
رابعا: مقومات الدولة القانونية بين التصور الإسلامي والتصور الغربي – مقارنة
ويجدر ملاحظة أن المفكرين القانونيين يضعون مقومات للدولة القانونية بناء على ما يتصورونه من شكل الدولة، وتصورهم هذا ليس بالضرورة أن يكون صوابا منطبقا على كل شكل من أشكال الدول، فمقومات الدولة القانونية لديهم أربعة:
1) وجود الدستور، وهذا بالطبع موجود في الدولة الإسلامية ومستنبط من الأدلة التفصيلية،
2) تَدَرُّجُ القواعد القانونية، فقوة القواعد القانونية تتفاوت فبعضها يطغى على بعض إن حصل تعارض، فالقواعد الدستورية أعلى قوة من غيرها من التشريعات العادية، ومن اللوائح الصادرة من السلطات الإدارية كالبلديات والولايات والدوائر، فتخضع القواعد الأدنى للأعلى شكلا ومضمونا، فلا تتعارض مع القواعد الأعلى، كي ينسجم البناء القانوني للدولة،
وسبب وجود هذا المقوم هو صدور القوانين والقواعد عن بشر في الدول التي تحتكم للأنظمة الوضعية، وبالتالي وجود مظنة التعارض والتناقض والاختلاف، ومحاولة منهم للحد من استغلال السلطات بحيث ترد الأحكام الصادرة عن السلطات الأدنى لتلك التي صدرت من الأعلى والتي تمثل القانون الدستوري للدولة في الغالب، لذلك يضعون هذا الشرط كي يحصل الانسجام وكي يضمنوا سواد الأنظمة الدستورية ومرجعيتها، فأما الدولة الإسلامية، سواء الخليفة أو القاضي أو الفقيه، فإنها تستنبط الأحكام من الأدلة التفصيلية وفق قواعد أصول الفقه، والتي تشكل منهجية متكاملة متميزة منضبطة تمام الانضباط لضمان شرعية الأحكام وغلبة الظن أنها مراد الشارع من تلك المسائل، وبالتالي فإن آلية انسجام الدولة القانونية مع نظمها متوفرة بطريقة خاصة بالدولة الإسلامية ولا تحتاج معها الدولة للخضوع لهذا المقوم بالصورة التي تصورها القانونيون الغربيون.
3) خضوع الإدارة للقانون، فلا تتخذ الإدارة إجراء أو قرارا إداريا أو عملا ماديا إلا بمقتضى القانون وتنفيذا للقانون، فتصدر الإدارة عن القانون وتلتزم به، بما يحقق قيمة سيادة حكم القانون، وهذا المبدأ متحقق في الدولة الإسلامية تمام التحقق، إذ أن الحاكم والمحكوم والإدارة وأجهزة الدولة كلها منضبطة بالأحكام الشرعية لا تملك خروجا عنها أو عليها.
4) الاعتراف بالحقوق والحريات الفردية[1]، وهذا المقوم الأخير أيضا ناشئ عن التصور الرأسمالي المغلوط لما يسمى بالحقوق والحريات الفردية، وهو مبدأ يتناقض مع الديمقراطية تمام التناقض، وهو ناشئ عن دمج فكرة الديمقراطية بفكرة الليبرالية التي تراعي حقوق الأفراد وتضمن حرياتهم، فالديمقراطية تقوم على ثلاثة أسس رئيسة: أولها: تحكيم رأي الأغلبية في المجتمع، وثانيها: منع تركز السلطات بيد الأقلية، أو استغلالها، وثالثها: تمثيل السلطات لرأي الشعب، والمتأمل المدقق يجد أن الديمقراطية والليبرالية تتناقضان تماما ولا يمكن الجمع بينهما! ووجه التناقض هو أن الأغلبية (أي الديمقراطية) لو رأت رأيا، وأجحف هذا الرأي بحقوق أو حريات الأقلية أو مجموعة من الأفراد، فإن الليبرالية ترى أن يسود مبدأ الحريات وضمان الحقوق فلا يُعمل بالرأي الذي نتج عن حكم الأكثرية، وبالتالي فالديمقراطية ذهبت أدراج الرياح!، فهب مثلا أن الأكثرية قررت منع ما يسمى زواج المثليين، فإن الليبرالية ترى في هذا منعا لتحقيق الحريات ومنعا للمثليين من حقوقهم، فتتجاوز حينها الدولةُ ما رأته الأغلبيةُ، فتقوم بسن قوانين تراعي حقوق الأفراد والأقليات من المثليين، فأين ذهب رأي الأغلبية؟ لقد ذهب أدراج الرياح!
وعليه فهذا التنظير قائم على التصور الرأسمالي الليبرالي لفكرة الحريات والحقوق الفردية، أما في الدولة الإسلامية فحقوق الأفراد متحققة بسواد حكم الشريعة، سواء المسلمين منهم أو أهل الذمة، لهم ما لنا من الإنصاف وعليهم ما علينا من الانتصاف[2]، وهكذا، لهذا فلا يعتبر هذا المقوم في الحكم على الدولة بأنها قانونية!
على أن المتشرعين هؤلاء يدعون أن هذا المقوم الأخير إنما يقوم لحماية الأفراد من عسف السلطات العامة واعتدائها على حقوقهم، لأن القانون والمبدأ السائد في الدولة إنما وجد -برأيهم- كي يضمن تمتع الأفراد ب”حرياتهم العامة” و”حقوقهم الفردية”[3]، وهذا أيضا ناتج عن التصور الرأسمالي للحياة، ففكرة الحريات هذه كلها فكرة غربية، وإنما التصور الإسلامي قائم على أن الناس أحرار، لا يستعبد بعضهم بعضا، سواء أكان الحاكم يستعبد المحكومين أم غيره، فلا يملك أحد استعباد أحد، وأنهم عبيد لله تعالى، يجب أن يخضعوا لمنهجه ودينه وشريعته في شئون حياتهم لضمان سواد العدل والحق ورفع الحرج عنهم ولتحقيق المصلحة التي هي عين اتباع الشرع، ولتحقق مقاصد الشريعة كما قررته القواعد الفقهية والأصولية، ولا يملك الحاكم أن يستغل سلطاته فيما يخالف الشرع، ولقد سيجت الدولة الإسلامية العلاقة بين الراعي والرعية بسياج متبادل من المسئوليات، فالرعية أيضا مسئولة عن النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتغيير، والمحاسبة وأحيانا الخروج على الحاكم، وفق آلية تتناسب مع طبيعة المنكر الذي تغيره أو تخرج عليه بسببه، وهكذا، وهي مسؤولة عن تشكيل الأحزاب السياسية التي تضمن القوامة على فكر المجتمع ومحاسبة حكامه، والمسؤولة عن قيادة المجتمع لضمان سواد مجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات التي تبنتها الأمة والتي بايعت الحاكم ليحكم بناء عليها، وجعلت الحاكم مسئولا عن تطبيق وتنفيذ الأحكام الشرعية وأعطته صلاحيات ومقدرات تضمن حسن تطبيق ذلك، من صلاحيات وأجهزة تعينه، ومن شرطة تعاقب الخارجين على تلك المنظومة وهكذا، وقد وازنت الشريعة بين قوة المجتمع وكيانه في الحفاظ على قيم الدولة الإسلامية، بقيادة الأحزاب السياسية والعلماء وأهل الحل والعقد في المجتمع، وبين كيان الدولة التنفيذي بما في الدولة من أجهزة وبما لديها من قوة (جيش وشرطة لضمان تطبيق الأحكام ومنع الخروج عليها) ومَنَعَ الإسلامُ القوةَ بأن تكونَ هيَ السلطةُ، بل فرَّقَتْ بينَ السلطةِ والتي هي رعايةُ الشؤونِ وبينَ القوةِ أيما تفريقٍ، وبالتالي فالدولة الإسلامية سبقت الدول الغربية في وضع التصور الصحيح لتماسك الدولة وتحقيق مسؤولية سواد القيم التشريعية فيها وضمان عدم الخروج عليها، وضمان مراقبة منع استغلال السلطات، وما زالت الدول الغربية في تخلفها عن بلوغ التصور الصحيح لما على التشريعات تحقيقه على صعيد الفرد والمجتمع والدولة!
ويجدر الملاحظة هنا أننا بالمقارنة بين الدولة القانونية والدولة الإسلامية لا نجعل الدولة القانونية مرجعية للحكم على الدولة الإسلامية، بل نعني أن فكرة خضوع الدولة للقانون أو للتشريع الذي قامت على أساسه فكرة متحققة في الدولة الإسلامية، وأن الشارع أولى مسألة الخضوع لسيادة الشرع في الدولة أيما اهتمام، وأما ما يسمى بالدولة القانونية، فإنها تعبير أريد به جعل النموذج الغربي للدولة أساسا لا فقط بفكرة الخضوع للقوانين، ولكن أيضا بما تمثله تلك الدولة من قيم مثل الحريات والديمقراطية، لذلك فنحن لا نقول أن الدولة الإسلامية دولة قانونية بالمفهوم الغربي، ولكن نقول بأن السيادة في الدولة الإسلامية للشرع.
[1] أنظر: النظام السياسي الإسلامي مقارنا بالدولة القانونية دراسة شرعية وقانونية مقارنة للأستاذ الدكتور منير حميد البياتي، ص 24 وما بعدها، وثروت بدوي النظم السياسية ص 174، ومبدأ المشروعية وضوابط خضوع الدولة للقانون ص 62 للدكتور طعيمة الجرف. بتصرف شديد.
[2] وقد جاء الإسلام بأحكام كثيرة لأهل الذمة ضَمِن لهم فيها حقوق الرعية وواجباتها. وإن أهل الذمة لهم ما لنا من الإنصاف، وعليهم ما علينا من الانتصاف. أمّا أن لهم ما لنا من الإنصاف فذلك آت من عموم قوله تعالى: ﴿وإذا حكمتم بين الناس أن تَحكموا بالعدل﴾ وقوله جلّ شأنه: ﴿ولا يَجرِمَنَّكم شَنَآن قوم ألاّ تَعدِلوا اعدِلوا هو أقرب للتقوى﴾ وقوله عن الحُكم بين أهل الكتاب: ﴿وإذا حكمتَ فاحكم بينهم بالقسط﴾. وأمّا أنّ عليهم ما علينا من الانتصاف فذلك آتٍ من أن النبي ﷺ كان يوقِع العقوبة على الكفار كما يوقِعها على المسلمين، فقد قَتل الرسول ﷺ يهودياً عقوبة على قتله امرأة، وأُتِي له ﷺ برجل وامرأة يهوديين قد زنيا فرجمهما. ولأهل الذمة علينا من الحماية للمسلمين، لقول رسول الله ﷺ: «من قتل نفساً معاهِدة لها ذمة الله ورسوله فقد أخفر ذمة الله ولا يَرِح رائحة الجنة وإن ريحها لَيوجَد من مسيرة أربعين خريفاً»، وقد أُتِي لرسول الله ﷺ بمسلم قتل يهودياً فقتله وقال: «نحن أحق من وفى بذمته»، ولأهل الذمة من رعاية شؤونهم وضمانة معاشهم ما للمسلمين، عن أبي وائل عن أبي موسى أو أحدهما بإسناده أن رسول الله ﷺ قال: «أطعِموا الجائع وعُودوا المريض وفكّوا العاني»، قال أبو عبيد: “وكذلك أهل الذمة يجاهَد مِن دونهم، ويفتك عناتهم، فإذا استنقذوا رجعوا إلى ذمتهم وعهدهم أحراراً وفي ذلك أحاديث”. أنظر: مقدمة الدستور أو الأسباب الموجبة له لحزب التحرير أحكام عامة.
[3] أنظر: النظام السياسي الإسلامي مقارنا بالدولة القانونية دراسة شرعية وقانونية مقارنة للأستاذ الدكتور منير حميد البياتي، ص 26 وثروت بدوي النظم السياسية ص 178.
2018_05_00_Khilafah_and_Imamate_in_Islamic_Thought_64_AR_OK.pdf