الأسرة المسلمة والفصام النكد
إن نظام الأسرة في أمة ما، يرتبط ارتباطا وثيقا بعقيدة هذه الأمة والأفكار المنبثقة عنها والتي تُحدد مجموعة المقاييس والمفاهيم والقناعات لدى الناس، فتتشكّل الأنظمة والقوانين بصورة متجانسة مع ما آمنت به الجماعة، لتخلق ذلك الطابع الخاص الذي يُميّز أمة عن غيرها… لكنّ التجانس بين النظم والعقيدة، لا يخلق قطعا التوازن والانضباط داخل المجتمعات، ولا يعني قطعا صلاح الأنظمة في رعاية شؤون الناس، فالنظام الصحيح مرهون بالعقيدة الصحيحة، ولا يكون ذلك إلا بالاسلام.
ولمّا كانت العقيدة في الغرب قائمة على فكرتين أساسيتين متناقضتين مع العقيدة الإسلامية: فصل الدين عن الحياة والحريات المُطلقة للفرد، كانت النظرة إلى الأسرة إذًا مبنية على هذه الأفكار، ومنها، كان المُشرّع الغربي يُراعي ضمان الفردية والحرية ومناقضة الدين في سنّ قوانين الأسرة، وهذا ما يُفسّر حالة الانهيار في المنظومة القيمية داخل الأسرة في المجتمع الغربي، وما وصلت إليه من تفكك وفوضى وما خلّفت من أزمات على الفرد وعلى المجتمع، حتى إن مفهوم الأسرة صار يقتصر في تعريفه على لقاء بين اثنين من بني البشر لا يهمّ في ذلك امرأة ورجلا أم رجلا ورجلاً أم أمرأة وامرأة، أما الأبناء فيمكن إضافتهم بالتبنّي أو حتى باستئجار الأرحام!
نعم!! هذه الحريات المُطلقة مع استئصال الدين، قد مكّن للمشرّع الغربي أن يعبث بمؤسسة الأسرة، ويجعل من كل الأحكام المتعلّقة بها “أحوالا شخصيّة”، تخُصّ أصحابها وحدهم، وكانت قوانين “الأحوال الشخصية” متناسقة مع هذه النظرة الفردية ومُحترمة لسقف الحريات، حتى أصبح الزواج المثلي قانونيا، والجندر وزواج المحارم والأمهات العازبات والعلاقات خارج إطار الزواج وأبناء السفاح وأحكام الطلاق والإرث والحضانة، مبنية على هذه الفردية المفرطة، التي تقدِّس الفردَ، وتجعل مصلحته الخاصة مُقدّمة على مصلحة الجماعة (أنا ومن بعدي الطوفان).
وكان حقا طوفانا عصف بالمجتمع الغربي وضرب نواته حتى تهاوت القيم الأخلاقية والإنسانية والروحية ولا اعتبار إلا لما يحُقق النفعية المادية للفرد! فكانت القوانين نفسها مشكلا من المشاكل التي لحقت بعلاقات الأسرة، وزادت من عمق الأزمة، لأنها مبنية على نظرة فاسدة للإنسان وللحياة!!
ورغم فساد العقيدة الغربية وفساد الأنظمة التي انبثقت عنها، إلا أن الإجماع على القوانين وقبولها بل استحسانها في حالات كثيرة رغم شذوذها وفسادها يعكس وضعية الانسجام بين الفكرة ونظامها، فنجد مسيرات ضخمة في الشوارع الأوروبية والأمريكية تُطالب بحماية المثليين جنسيا وحماية حقوقهم، أو سن قوانين تبيح الخيانة الزوجية، أو المطالبة بتشريع الزواج بين الإنسان والحيوان كما حصل في النرويج مثلا، والتي من المرتقب أن تُجيز ذلك باستثناء التزاوج بالحشرات والحيوانات البحرية والدواجن!
مثل هذه القوانين المعيبة الفاجرة تُبيّن حجم فساد العقيدة الغربية في تعاطيها مع الإنسان، وحجم قصورها وعجزها في فهمه ابتداءً ثم في معالجة مشاكله، ما جعل المُشرّعين في الغرب يلجأون لكذبة الحرية “افعل ما تشاء وكيفما تشاء” لعجزهم عن استيعاب مشاكل الإنسان وتوفير الحلول، فتكون “الحرية” شمّاعة للعجز والفشل!!
لكن أزمة الأسرة في البلاد الإسلامية من نوع آخر، فهي أزمة نظام فاسد مُنبتّ عن عقيدة الناس، أُدخل قسرا وطُبَق غصبا، فشكّل حالة من الفوضى العارمة، لفشله من جهة، ولمناقضته عقيدة الأمة ومقاييسها وقناعاتها أساسا من جهة أخرى!!
إن أسرتنا المسلمة اليوم، تعيش حالة من الفصام النكد، بين دين تؤمن به ليس من طبيعته أن ينفصل عن الحياة وبين تشريعات قائمة على فصل الدين عن الحياة، هذا المزج بين المتناقضات يُدمّر ولا يُعمّر، ويجعل من وضعية الفرد والمجتمع وضعية مضطربة مُعقّدة مزدوجة الأزمة!
بين أحكام الله في الزواج والطلاق والنفقة والوصاية والإرث والحضانة والنسب، وبين أحكام هجينة سُلّطت على رقابنا فقطعت ما أمر به الله أن يُوصَل وسمحت لغير شرع الله أن يُطبق في محاولة تعسّفية لتأسيس نظرة جديدة عن الأسرة وعن دور الزوجة والزوج والأبناء مخالفة في تأصيلاتها وتفصيلاتها لنظرة الإسلام العظيم!
وابتداءً من مجلة الأحوال الشخصية التي أسسها “بورقيبة” في تونس سنة 1956 والتي أثارت جدلا واسعا في أرض الزيتونة لإعلانه الحرب على الله ورسوله في أصولها وبنودها والتي تضمنت منع وتجريم تعدد الزوجات، وإلغاء حق التطليق من جانب الرجل ومنحه للمحكمة وإلغاء حق الطاعة، وإباحة الإجهاض والاعتراف بالتبني، مرورا باتفاقية سيداو وما جاء فيها من بنود مناقضة للشرع الإسلامي خاصة في نظام المواريث وزواج المسلمة من الكافر والتي تحفَّظت أغلب البلدان العربية على هذه البنود على استحياء ما عدا تونس في عهد السبسي الآن الذي واصل الحرب بالوكالة عن المقبور بورقيبة من قبله، أو برتوكول “مابوتو” المعني بحقوق المرأة في أفريقيا، أو خطط الأمم المتحدة المتعلقة بحقوق المرأة والأسرة والطفولة، ولجان حقوق المرأة والجمعيات النسوية وكل هذه المواثيق والمشاريع التي تسعى لاجتثاث الفهم الإسلامي للأسرة، المتأصّل في وجدان المسلمين، والذي خلق تلك الهُوةّ العميقة بين آمال الأسرة وبين واقعها.
فالناظر لواقع الأسرة في بلادنا الإسلامية اليوم، لا يُمكنه إنكار تردّي وضعيتها من خلال تفشي ظاهرة الطلاق وارتفاع نسبها يوما بعد يوم، ونسب العنوسة، وعزوف الشباب عن الزواج خوفا من الارتباط الأسري، وتراجع نسبة الترابط الأسري وصراع الأدوار فيها، وتهميش دور الأمومة والعلاقات الزوجية، مع ضغط الحياة الاقتصادية والظروف المعيشية التي تساهم في تهديد ترابطها، وفوق ذلك حالة الفصام بين العقيدة والقوانين.
إن الأصل في شخصية المسلم وهو يحيا داخل المجتمع، أن يكون شخصية متناسقة منسجمة وهذا ما يجعل منه متوازنا، منضبطا، فسلوكه مضبوط وفق مفاهيم آمن بها، وفي سيره لربط علاقاته مع نفسه ومع الإنسان ومع خالقه، يكون التزامه بالقوانين التزاما ذاتيّا مدفوعا بتقوى الله سبحانه، فيسهل عليه تطبيق الأحكام واستساغتها، ويحترم دوره داخل الجماعة خصوصا داخل الأسرة التي ينتمي إليها أو يؤسسها بوصفها قلعة مُحصّنة بأحكام الله ورسوله، فتكون تلك الأسرة قوية مترابطة منتجة ومنصهرة مع الأمة التي تحتويها ومستجيبة للدولة التي تستظل بها.
وحتى تُحقق أسرنا المسلمة تلك النهضة وتلك الطمأنينة وذلك الانسجام والتوازن وتُنتج شخصيات مسؤولة وناضجة، عليها خلع هذه الأنظمة الفاسدة التي تهدم ولا تبني، وتتبنّى نظامها الأصلي من وحي عقيدتها المتجذرة فيها وتبني دولتها العادلة الراشدة التي تحميها وتقيها لتُحيي من جديد مفهوم الوحدة بمعناها الصحيح، من نفس واحدة إلى أسرة واحدة إلى دولة واحدة إلى أمة واحدة.
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾
كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
نسرين بوظافري
2018_10_05_Art_Schitzophrenia_in_the_Muslim_Family_AR_OK.pdf