الزواج والخلافة في الأرض
ضمن حملة “الأسرة: التحديات والحلول الإسلامية”
“لقد صنعت كل ما وسعني أن أصنع لتحسين حال أولئك المساكين الأبرياء أبناء الزنا. إلا أنك لا تستطيع أن تصنع لهم الشيء الكثير دون المساس بقواعد الزواج. وإلا أحجم الناس عن الزواج إلا القليل” [عبقرية محمد 44/ 11]. هذا رأي لنابليون الذي الذي يُنسب إليه القانون المدني الفرنسي، الذي وضع الأسس الإدارية والقضائية لمعظم دول أوروبا الغربية وكان لأعماله أثر في السياسة الأوروبية.
فولتير الذي تأثر به نابليون يقول في الزواج: “المغامرة الوحيدة التي لا يقدم عليها إلا جبان”. أما لينين فيرى أنَّه لا رابطة بين الزوجين أوثق من رابطة الرفيقين في الفندق أو الطريق!
هذه بعض من آراء فلاسفة وقادة ومؤثرين في الحضارة الغربية بشقيّها الرأسمالي والشيوعي، عن الزواج وعلاقة الرجل بالمرأة، تُظهر مدى الاستخفاف ومدى الجهل النابع من هاتين الحضارتين – على لسان منظرين غربيين – بشؤون الإنسان ورعايتها والنهضة بالمجتمع الإنساني بشكل راقٍ يحفظ الكرامة ويحمي المجتمع من الانحدار.
لكنَّ هذه النظرة تختلف في الإسلام الذي يجعل التكاثر مدعاة للتفاخر يوم القيامة.
ورد لفظ “خليفة” في القرآن الكريم مرَّتين: الأولى في سورة البقرة في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [30]، والثانية في سورة (ص) في قوله تعالى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾ [26]. وفي الآيتين كان المعنى يؤكد على الغاية من وجودنا في هذه الأرض، وهو الاستخلاف الذي أراده الله سبحانه حين خلق آدم ابتداء. ذكر ابن عاشور في تفسيره “التحرير والتنوير” للآية من سورة البقرة: “فالخليفة آدم وخَلَفِيَّتُه قيامُه بتنفيذ مراد الله تعالى من تعمير الأرض بالإلهام أو بالوحي وتلقينُ ذريته مراد الله تعالى من هذا العالم الأرضي، ومما يشمله هذا التصرف تصرف آدم بسَن النظام لأهله وأهاليهم على حسب وفرة عددهم واتساع تصرفاتهم، فكانت الآية من هذا الوجه إيماءً إلى حاجة البشر إلى إقامة خليفة لتنفيذ الفصل بين الناس في منازعاتهم إذ لا يستقيم نظام يجمع البشر بدون ذلك”.
خلق الله الإنسان وأوجد فيه حاجات عضوية وأودع فيه غرائز وجعله – بهذه الصفات – خليفة في الأرض، وأعطاه من صفات كماله بعض الكمالات، ومن قدرته أعطاه قدرة، ومن علمه أعطاه علماً. إلا أن هذا الخليفة حتى يحمل الأمانة، وحتى يكون أهلاً للخلافة في الأرض كان لا بدَّ أن يكون نسلاً شريفاً طاهراً؛ بأن يكون تواجد الذرية وإنشاء الأجيال بصورة واضحة على أعين الناس مفهومة. فتُحفظ الأنساب وتُصان الأعراض وتأمن المجتمعات لتقوم بالواجب الأعظم وهو الخلافة في الأرض. يقول الله سبحانه في سورة النحل: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾ [72]. فالزواج كان تشريع الله لأجل استمرار الخلفاء في الأرض، وضمان طهارة هؤلاء الخلفاء في نسلهم وأعراضهم.
لم تكن غرائز الإنسان يوماً هدفاً أو قضية بذاتها يُسعى لأجل إشباعها، بل هي مَلكات أودعها الله الإنسانَ لكي تكون عوناً له على السير، فليس للمسلم أن يكرس حياته لأجل إشباعها، فما لهذا وُجدت هذه الغرائز. فالله سبحانه وصف قوم لوط بأنهم قوم عادون، مسرفون ﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ﴾ [الأعراف: 81]. فهم تجاوزوا الحد وأسرفوا في شهواتهم فتعدَّوا حدود الله بأن صرفوا هذه الغريزة في غير موضعها الذي خلقت له. والله سبحانه يقول: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 26]. فالتعري يعني الهمجية، والتستر رقي وحضارة، فاللباس يواري سوءات الإنسان، وخلع الثياب دليل التوحش، ودليل البعد عن منهج الله عز وجل.
وقد كانت هذه الفكرة واضحة في الآيات والأحاديث والتراث الإسلامي؛ حيث عبَّر الإمام أحمد بن حنبل عن ذلك بقوله: “من دعاك إلى غير التزويج، فقد دعاك إلى غير الإسلام”. وكانت دولة الخلافة تعلم أهمية الزواج كلبنة أولى في استقرار المجتمعات وحماية النوع البشري من الفساد والانحلال الذي هو أخطر من الزوال. فكانت تنفق من بيت المال على تزويج الشباب، وكانت تحارب عبر تطبيقها أحكام الإسلام كلَّ ما يمس كيان الأسرة ومؤسسة الزواج بأي خطر. من هذه الأحكام تطبيق حدود الزنا ومحاربة الفاحشة ونشر الثقافة الإسلامية التي تضبط علاقة الرجل بالمرأة فتسمو بهما إلى قمة التعامل الإنساني القائم على البناء وعمارة الأرض.
الإسلام الذي صرَّف الغريزة الجنسية عبر الزواج، يحرم الخلوة بين الرجل والمرأة الأجنبيين، ويمنع إطلاق البصر والنظر بشهوة لغير الزوج، ويحرِّم على المرأة التبرج وإظهار مفاتنها لغير محارمها؛ وفي الوقت نفسه فإن الإسلام يفرض على المرأة حسن التبعل لزوجها، ويجعل في ذلك أجراً يعادل الجهاد في سبيل الله، ويجعل في علاقة الرجل بأهله أجراً. كل ذلك في نظام بديع يعالج مشكلة في المجتمع البشري بشكل فريد يرتقي بالمجتمع بل بالبشرية جمعاء؛ فلا كبت ولا انحلال، بل طهر وفضيلة وحفاظ على الإنسان وارتقاء بالمجتمع البشري لأرقى صورة. أما التشريعات الوضعية فلم تنتج إلا الشذوذ والرذيلة والانحلال الخلقي الذي يشكل خطراً دامغاً على المجتمعات وبنيتها الأساسية: الأسرة. ففي دولة مثل فرنسا أكَّد التقريرُ السنوي الأخير – الذي أعده “المعهد الوطني الفرنسي للأبحاث الديموغرافية”، وقدم إلى البرلمان الفرنسي – الأوضاعَ المتردية التي آلت إليها مؤسسةُ الزواج في فرنسا، وكيف أنها لم تعد إطاراً للعلاقات بين الجنسين، بل أصبحت العلاقاتُ غير الشرعية هي النمطَ السائد بين المرأة والرجل، فمن بين كل عشرة أشخاص متزوجين يوجد تسعة منهم خارج الإطار الشرعي للزواج!!
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21]
كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
أختكم: بيان جمال
2018_10_17_Art_Marriage_and_the_Succession_in_the_land_AR_OK.pdf