العقدة الكبرى والعقد الصغرى
الحلقة الخامسة
ومما يجبُ لفتُ النظرِ إليه هنا وجودُ مظاهرَ غريزية متناقضة عند الإنسان، وليس في هذه المظاهر المتناقضة ميزة لأحد المتناقضين على الأخر تجعله الأولى بالإشباع، فيقعُ الإنسانُ في حيرةٍ من أمرِه، أيشبعُ هذا المظهرَ فيهدئه ويسكنه، ويتركُ الآخرَ ينغّصُ عليه عيشَه؟ أم يتركُ الاثنين فلا يشبعهما فيستمر قلقه ويتضاعف وتزدادُ حيرتُه؟ وهو كذلك لا يستطيع أن يشبعهما معاً في الموقف المثيرِ الواحد، فماذا يفعل؟
ومن أمثلة هذه المظاهر المتناقضة الأثرةُ والإيثار، والشحّ والكرم، وغيرها، فلا بد من المفهوم الصحيح للإشباع، وهذا المفهوم لا يكونُ صحيحاً إلا إذا انبثق عن الحلّ الصحيح للعقدة الكبرى انبثاقاً صحيحاً.
ولكن الغالب على الناس أنهم يهربون من هذا السؤال بجواب لسؤال آخر، وليس لهذا السؤال: وماذا بعد؟ فبعد أن يحقق المرء هدفاً كان يسعى إليه، كالنجاح في الثانوية العامة مثلاً، فإنه يجيب أن ما بعده هو الجامعة، وبعد الدرجة الجامعية الأولى عندما يثور عليه السؤال مرة أخرى، تكون إجابته بمتابعة الدراسة أو البحث عن عمل، فيسعى للحصول على عمل يحقق له أعلى مستوى من العيش، وبعد الحصول عليه وبعد أن يطمئن للحصول عليه، يثور عليه السؤال مرة أخرى، فيكون الجواب: البيت… الزواج… الأولاد، ثم تربية الأولاد، ثم تعليمهم أفضل تعليم، وتنشتهم أفضل تنشئة، وبأعلى مستوى ممكن من الحياة، وهكذا فلا تنتهي طموحات الإنسان إلا بالموت، انظر إلى قول الله تعالى في سورة الحجر: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)، فهل خلق الإنسان لأجل هذا؟ أم أن كلّ ما سبق من آمال للإنسان إنما هي تحصيل حاصل؟ تتحقق لكل إنسان، سواء أجعل الآخرةَ هدفَه وغايتَه، أم جعلَ الدنيا غايتَهُ وهدفَه؟
انظر بم وصف الله سبحانه وتعالى الكفار، في سورة محمد: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ)، فهذا يعني أن هناك أكلاً غير أكل الأنعام، وتمتعاً غير تمتَع الأنعام، فليست المسألة مسألة إشباع حاجة عضوية، أو إشباع مظهر من مظاهر الغرائز، بل المسألة مسألة إشباع على هيئة معينة وكيفية معينة، وإلا فإن الإشباع لا يتحقق، يتحقق في حالة واحدة فقط من حالات الإشباع، أن يشبع على هيئة معينة، ويربط هذا الإشباع بحل العقدة الكبرى، ويتمثل الغايةَ من الإشباع على هذه الهيئة، فحينئذ لا تنشأ عقد صغرى عند الإنسان. ولهذا القول تفصيل.
وندخل هنا إلى مسألة أخرى، وهي مسألة مادية الإنسان، فالإنسان مادة فقط.
وكل ما يقع حسه عليه مادة فقط، ولكن هناك أمراً آخر، وهو كون هذه المادة سواء التي هي حوله، أو التي تكوّن جسمه منها، مخلوقةٌ لخالق، هو الله عز وجل، وهنا تتشكل صلةٌ بين هذه المواد وبين الخالق سبحانه وتعالى، صلة الخلق، وهذه الصلة هي الروح، ولكن من الذي يدرك هذه الصلة؟ يدركها المؤمن بالله سبحانه خالقاً لهذا الكون، فمن أدركها صار عنده روح، وهذه الناحية في الأشياء هي الناحية الروحية، إدراك الصلة بالخالق سبحانه.
وهذا الإدراك مطلوب من الإنسان في كل عمل من أعماله، مطلوب منه أن يسيّر أعماله بحسب ما أمر الله سبحانه وتعالى، فيفعل حين يفعل الفعل بحسب مقياس الفكرة الكلية (حل العقدة الكبرى) من جهة حكمه الشرعي، ويتعامل مع الأشياء في هذا الكون على أنها مخلوقة للخالق سبحانه، وأنه سخرها له لينتفع بها بحسب أمر الله تعالى ونهيه، ولذلك فإنه عندما يقوم بإشباع حاجة من حاجاته، أو مظهر من مظاهر غرائزه يدرك هذه الصلة، فيسير إشباعه بحسب مقياس الحكم الشرعي، وهنا تنشأ عنده الناحية الروحية، الصلة بالخالق سبحانه وتعالى، ويتم التسيير بحسب نظرته للسعادة من أنها إرضاء الله تعالى، ومن حيث نظرته للحياة وتصويره لها الذي أخذه من الفكرة الكلية (حل العقدة الكبرى) فيحقق القيمة المرجوة من الفعل، والمثل الأعلى الذي يسير بحسبه، في هذه الحالة، وفي هذه الحالة فقط لا يثور عليه سؤال: وماذا بعد؟ أو: وبعدين؟ فيكون قد تخلص من العقدة الصغرى المتعلقة بهذا المظهر الغريزي، أو الحاجة العضوية.
وعليه يتحقق القول: وإعطاء الفكرة الكلية عن هذه الأشياء [الكون والإنسان والحياة] هو حل العقدة الكبرى عند الإنسان . ومتى حلت هذه العقدة حلت باقي العقد
كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير
أبو محمد – خليفة محمد – الأردن