العقدة الكبرى والعقد الصغرى
الحلقة التاسعة عشرة
ووقت الموت لكل إنسان معلوم عند الله تعالى، بل هو الذي كتبه على العبيد، وقسّمه بينهم، وجعل لكل واحد منهم أجلاً لا ريب فيه، لا يستقدم ساعةً ولا يستأخر ساعة، (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ).
ووقت الموت ومكانه غير معلوم للإنسان، (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) وإن في إخفائه دافعاً له لكي يستمر في وظيفته في عمارة الأرض التي استخلف فيها بحسب أوامر الله تعالى ونواهيه، ويستمر في الاستزادة من العمل الصالح، موقناً أنه لن يموت قبل أجله الذي كتبه الله سبحانه وتعالى.
ومن أيقن هذا اليقين، أن الموتَ سُلَّمٌ يصعدُ عليه إلى الجنات العلى، فإنه لا يخافُ الموت، ولا ينثني عن عظائم الأمور، بل يستمر في حياته مرتقياً من عليٍّ إلى أعلى، يمتثل أوامر الله تعالى حتى لو دفع حياته ثمناً لالتزامه بها، فلقد رأينا الصحابة الكرام، ومن تبعهم بإحسان، رأيناهم كيف حملوا الإسلام إلى العالم لا يهابون أحدا دون الله تعالى، ولم يحسبوا حساباً لضرر أو أذى أو موت، ورأيناهم كيف حققوا في زمن قصير نسبياً ما يعجز عن تحقيقه غيرهم، ولقد أثرَ عنهم رضي الله عنهم مقولتهم المشهورة: اطلبوا الموتَ توهبْ لكم الحياة، قالها أبو بكرٍ رضيَ الله عنه، وسار عليها الصحابة والتابعون.
واليوم نرى نفراً من أبناء الأمة الإسلامية واعين مخلصين على عقيدتهم، يرون واقعهم على حقيقته، فيعملون لتغييره، وإقامة شرع الله تعالى بعد أن عطله الناس عقوداً من الزمن، ويقدمون في سبيله الغالي والنفيس، ولا يبالون بما يصيبهم من نصب أو تعب أو لأواءَ أو موت في سبيل تحقيق تلك الغاية، ونرى من أبناء المسلمين من يقدّم نفسه وولده وكل ما يملك دفاعاً عن أرض الإسلام والمسلمين.
أخرج أحمد في مسنده عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ لاَ يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ رَهْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ فَإِنَّهُ لاَ يُقَرِّبُ مِنْ أَجَلٍ وَلاَ يُبَاعِدُ مِنْ رِزْقٍ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ أَوْ يُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ ».
فلا يكون الخوف على الحياة مانعاً من مجيء الموت وحلوله، ولا تكون معرفة حقيقة الموت مؤجلةً للموت، بل إن الموت سيقع في الوقت الذي أراده الله سبحانه وتعالى، والمكان الذي أراده، فعلى الإنسان أن يحلّ العقدة الكبرى الحلّ الصحيح، ويسير في حياته بمقتضى هذا الحل ليعيش سعيداً ويموت سعيداً ويبعث سعيداً ويكون في الآخرة مع الذين سُعِدوا. فيقول الحق حين لزومه، ويفعل الحق حين وجوبه، وينتهي عن المعصية حين وجودها، ولا يخاف في الله لومةَ لائم، ولا يخاف إلا الله تعالى، فإن أجله لا بدّ آتيه في وقته ومكانه، وليجعله كما قلنا سُلّماً يرتقي به إلى الجنات العلى.
(إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)
(كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)
وعليه لا يكون الموت عقدة، ولا يخاف منه، بل يخاف مما بعده من عذاب وشدة وأهوال، ويعمل في حياته لذلك اليوم، آمناً في دنياه، مطمئناً إلى صحة سيره، لا يتسرب لنفسه قلقٌ أو ريبٌ أو شك.
كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير
أبو محمد – خليفة محمد – الأردن