فيسبوك تضغط لمنع سن قوانين لحماية خصوصية البيانات
الخبر:
الجزيرة: أظهرت وثائق داخلية مسربة من فيسبوك أن شبكة التواصل تساوم سياسيين حول العالم بتعهدها بتقديم استثمارات وحوافز مقابل ممارستهم ضغوطا نيابة عنها، لمقاومة سن قوانين لحماية خصوصية البيانات.
وتكشف تلك الوثائق – التي اطلعت عليها صحيفة الأوبزرفر البريطانية – عن عملية دولية لكسب تأييد مئات البرلمانيين والمشرعين الآخرين وجهات رقابية، في محاولة من فيسبوك للتأثير على صناع القرار في أرجاء العالم، خاصة في دول مثل بريطانيا والولايات المتحدة وكندا والهند وفيتنام والأرجنتين والبرازيل وماليزيا ودول الاتحاد الأوروبي الـ28. وجاء في تلك الوثائق أيضا أن رئيس الوزراء الإيرلندي قال إن بلاده ستمارس نفوذها الكبير – بوصفها رئيسة الاتحاد الأوروبي – دفاعا عن مصالح فيسبوك، مع أن المفترض من الناحية الفنية أن تبقى على الحياد.
التعليق:
أولا: إن وضع التشريع بيد البشر جريمة كبرى في حق الإنسان، وكثيرا ما يفضي ذلك إلى سن القوانين والأنظمة التي تخدم مصالح الشركات الكبرى، على حساب سواد الناس. ففي كندا على سبيل المثال، وفي عام 2015، اتهمت النيابة العامة الكندية شركة “إس إن سي-لافالان”، وهي شركة للبناء والهندسة، برشوة مسؤولين ليبيين للتأثير على منح عقود بين عامي 2001 و2011، وبالتالي يجب أن تحاكم الشركة على أساس ارتكابها جريمة مقاضاة جنائية، قام الحزب الليبرالي الحاكم في 19 أيلول/سبتمبر 2018 بتمرير تعديلات على القانون الجنائي الكندي حيز التنفيذ، وفيه يُسمح للسلطات بإجراء ما يُعرف باتفاقية الادعاء الآجلة “Deferred Prosecution Agreement“، وهو إجراء يسمح للسلطات القضائية والنيابية الكندية، وتحديداً “الادعاء العام الفيدرالي”، بالتفاوض مع الشركات والمؤسسات المرتكبة لمخالفات قانونية على دفع غرامة بدلا من التقاضي حتى الإدانة الجنائية، وهي إدانات إن حدثت قد تُوقف أي شركة عن العمل لعشر سنوات في المتوسط داخل السوق الكندي وعالميا.
لم يتم الربط حينها مباشرة بين هذه التعديلات في القانون وبين محاكمة الشركة المذكورة، حتى طفت على السطح فضيحة ضغط الحكومة الليبرالية على المدعي العام الكندي السابقة جودي ويلسون-رايبولد لمعاملة الشركة المذكورة وفقا للتعديل الجديد في القانون، وهكذا فإن الشركات الكبرى تعمل مع المشرعين في كبريات الديمقراطيات لتفصيل القوانين بالصورة التي تتناسب مع مصالحها، وتجنبها المآزق القانونية.
ثانيا: تقف الديمقراطية العلمانية أمام مأزق دستوري تشريعي ضخم حين تجد نفسها عاجزة عن وضع مجموعة من القيم القابلة للتحقيق في الواقع، دون الاصطدام بين هذه القيم، بحيث تدمر بعضها بعضا، وحين ذلك لا تعدو تلك القيم أن تكون مستحيلة التطبيق، أو تتحول إلى مجرد شعارات جوفاء، مثل تحقيق حرية التعبير وحماية حقوق المرء بالمحاكمة العادلة تتصادمان مع قانون الأدلة السرية في أمريكا والذي يحرم المتهم من معرفة جريمته ومن الدفاع عن نفسه بحجة أن عرض أدلة جريمته يهدد الأمن القومي، فلا هو يعرفها ولا القاضي ولا يحق له الدفاع عن نفسه، فالقوانين تناقض المقاصد وتناقض بعضها بعضا، وهذا التناقض جذري ينسف أوله آخره، وليس بالتناقض العرضي الذي يحل إشكاله.
ومن أمثلة ذلك: حين أراد حزب المحافظين في كندا تمرير قانون الأدلة السرية، كان يواجه مقاومة شديدة في البرلمان لفظاعة شكل القانون، فقام الحزب بزراعة عميل وسط شباب مسلمين، حاول إقناعهم بالقيام بأعمال إرهابية، ولفق لهم تهما إرهابية بأنهم كانوا يريدون تفجير البرلمان ومقرات الدولة، وثارت ضجة إعلامية كبيرة الأصداء، فلما جاء يوم التصويت لم يجرؤ على معارضة القانون أحد، ومر القانون، ثم دارت الأيام ولم تثبت التهم والقضايا على أي من المتهمين، ولم يراجع أحدٌ أحداً بتسلسل الأحداث، وأضحى القانون قانوناً!
ومن أمثلة ذلك: حين تتجسس الدولة على قلة يهددون الأمن – بزعمهم – ثم تستمرئ الأمر فتسحب التجسس ليعم الناس كلهم بالتجسس الإلكتروني الذي يحصي على الجميع أنفاسهم وخطواتهم وتفكيرهم ورغباتهم وطبائعهم، لاستعمال هذا كله لتباع المعلومات للأحزاب السياسية، وللمسوِّقين للسلع، وأصحاب رأس المال، وللأجهزة الأمنية، فإن الخصوصية قد ذهبت بغير رجعة، فالقانون الثاني نسف الأول بلا رحمة!
من المفروض أن تهدف التشريعات والقوانين الناظمة لعلاقات المجتمع تحقيق قيم معينة يضعها المفكرون أو المشرعون، وقد تصطدم هذه القيم برغائب السياسيين وأصحاب رأس المال، فتظهر فورا لديهم مشاكل تظهر قصور نظرتهم الْقِيَمِيَّةِ، ونظرتهم التشريعية فتضرب التشريعاتُ القيمَ، وتضرب وقائع حياة الناس تلك القيم المثالية الهلامية، فتستحدث الدولة من الثنائيات حول إشكاليات تناقض القيم مع التشريعات مع واقع الحياة في تلك المجتمعات! لتضرب بها تلك القيم أو لتجعل الدولة لنفسها ذريعة في الحد منها وتحجيمها ومحاكمة من يؤمن بها! من ذلك مثلا: اصطدمت الدول الغربية الحديثة بهذه الثنائيات التي أجهزت على البقية الباقية من مقاصد التشريع لديهم ومع قيم حضارتهم: ثنائية: الحرية – الأمن، ثنائية: الخصوصية – الأمن، فتتدخل الدولة وأجهزتها الأمنية في خصوصيات الناس وتتجسس عليهم بكل السبل الإلكترونية بحجة الحفاظ على الأمن! فأخذت الأنظمة الغربية تشرع قوانين تزيد من سلطة الدولة في مراقبة الأفراد والحد من حرياتهم وخصوصياتهم، مظنة إفسادهم في المجتمعات وتعديهم على الأمن العام والصالح العام، واحتج الناس على الدولة بأنها تتجسس عليهم، ثنائية: تدخل الدولة في السوق – منع تدخلها، ثنائية: حرية التعبير – القذف! فإن لم يرق لهم التعبير قالوا عنه إنه تجاوز حرية التعبير إلى القذف، ثنائية: حرية التعبير – خطاب الكراهية، فما أسهل أن يحاكم الرأي الذي ظن صاحبه أنه من باب حرية الرأي المكفولة إلى خانة الحض على الكراهية، فيكون سببا في سجنه، ومعلوم أن تعريفات الكراهية والقذف وما أشبه هي تعريفات هلامية يسهل تغييرها ووضع أي رأي تحتها ليسهل محاكمة قائله وهكذا، بل زادوا على ذلك، فبعد عقد اتفاقيات حرية التبادل التجاري، أرادت أمريكا التضييق على صناعات الصلب والألومنيوم ففرضت عليها رسوما باهظة حين تستوردها من الغير، بحجة تعارضها مع الأمن القومي، ثنائية: حرية التبادل التجاري – الأمن القومي! وهكذا تتعارض القيم التي يراد لها أن تكون مرجعية للقانون مع القوانين ومع أنظمة المجتمع! وتستعمل الدولة القيم وتأويلاتها بشكل يسمح لها أن تحاكم الأفراد والهيئات على ما لا يروق لها من تصرفاتهم!!
إن هذا كله يبين بشكل واضح عجز المشرع البشري عن أن يصوغ قوانين تتصف بالعدل، وتحقيق القيم والمثل المجتمعية التي بها تصلح المجتمعات، وتدافع عن حقوق الرعية في وجه المتنفذين وأصحاب رأس المال، في حين إن التشريع الإسلامي حلق عاليا فوضع قيما ومقاصد وأنظمة للدولة والفرد والمجتمع تصوغ العلاقات على أساس من العدل والحكمة، وبناء الأنظمة المجتمعية، والإنسان الصالح، والتي تضمن تناسق وانسجام هذه القيم، وعدم تعارضها، وتضمن أن تصب التشريعات في إقامتها في الواقع دون تعارض أو إخلال. “وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ”
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
ثائر سلامة (أبو مالك)