Take a fresh look at your lifestyle.

الميزان ميزان الفكر والنفس والسلوك – الحلقة التاسعة

 

الميزان

 

ميزان الفكر والنفس والسلوك

 

الحلقة التاسعة

 

 

الميزان

 

أخبر الله سبحانه وتعالى في مواضع ثلاثة في القرآن الكريم عن إنزاله الميزان مع الكتاب، وذلك في سورة الشورى والرحمن والحديد، قال سبحانه وتعالى في سورة الشورى: (الله الذي أنزل الكتابَ بالحق والميزان)، وقال في سورة الحديد: ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط)، وقال في سورة الرحمن: (والسماء رفعها ووضع الميزان).

 

وفي ما يلي بعض من أقوال المفسرين في تفسير لفظ الميزان الوارد في الآيات الثلاث:

 

يقول الإمام ابن كثير – رحمه الله تعالى -: «{وَوَضَعَ الْـمِيزَانَ} أي: العدل؛ كما قال – سبحانه -: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْـمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: ٥٢]، وهكذا قال ها هنا: {أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْـمِيزَانِ} [الرحمن: 8] أي: خلق السماوات والأرض بالحق والعدل لتكون الأشياء كلها بالعدل، ولهذا قال – سبحانه -: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْـمِيزَانَ} [الرحمن: ٩]، أي: لا تبخسوا الوزن، بل زنوا بالحق والقسط؛ كما قال – سبحانه -: {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْـمُسْتَقِيمِ} [الإسراء: ٥٣][1].

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: «وكذلك أنزل الله – سبحانه – الميزان في القلوب؛ لمَّا بينت الرسل العدل وما يوزن به عرفت القلوب ذلك؛ فأنزل الله على القلوب من العلم ما تزن به الأمور حتى تعرف التماثل والاختلاف، وتضع من الآلات الحسية ما تحتاج إليه في ذلك، كما وضعت موازين النقدين وغير ذلك. وهذا من وضعه – تعالى – الميزان؛ قال – تعالى -: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْـمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْـمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْـمِيزَانَ} [الرحمن: ٧ – ٩]، وقال أكثر المفسرين: هو العدل، وقال بعضهم: هو ما يوزن به ويعرف العدل، وهما متلازمان»[2].

ويقول سيد قطب – رحمه الله تعالى – عند هذه الآيات: «وإلى جوار هذه العظمة في رفع هذه السماء الهائلة الوسيعة {وَضَعَ الْـمِيزَانَ}: ميزان الحق؛ وضعه ثابتاً راسخاً مستقراً، وضعه لتقدير القيم: قيم الأشخاص والأحداث والأشياء؛ كي لا يختل تقويمها، ولا يضطرب وزنها، ولا تتبع الجهل والغرض والهوى. وضعه في الفطرة، ووضعه في المنهج الإلهي الذي جاءت به الرسالات وتضمنه القرآن؛ {وَوَضَعَ الْـمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْـمِيزَانِ} [الرحمن: ٧ – 8] فتُغالُوا وتُفرِطوا، {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْـمِيزَانَ} [الرحمن: ٩]، ومن ثم يستقر الوزن بالقسط بلا طغيان ولا خسران»[3].
ويقول القاسمي – رحمه الله تعالى – عند هذه الآية: «{وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} أي: الاستقامة في الطريقة، وملازمة حد الفضيلة ونقطة الاعتدال في جميع الأمور وكل القوى»[4].

ويقول الشيخ السعدي – رحمه الله تعالى -: «{وَوَضَعَ الْـمِيزَانَ} أي: العدل بين العباد في الأقوال والأفعال، وليس المراد به الميزان المعروف وحده، بل هو كما ذكرنا يدخل فيه الميزان المعروف، والمكيال الذي تكال به الأشياء، والمقادير والمساحات التي يضبط بها المجهولات، والحقائق التي يفصل فيها بين المخلوقات، ويقام بها العدل بينهم»[5].

ويقول البقاعي – رحمه الله تعالى – في تفسيره لهذه الآية: «{وَوَضَعَ الْـمِيزَانَ} أي: العدل الذي دبَّر به الخافقين؛ من الموازنة وهي: المعادلة لتنظيم أمورنا»[6].

ويقول ابن عاشور – رحمه الله تعالى – في التحرير والتنوير: «والميزان هنا مراد به العدل؛ مثل الذي في قوله – تعالى -: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْـمِيزَانَ} [الحديد: ٥٢]؛ لأنه الذي وضعه الله – أي: عيَّنه – لإقامة نظام الخلق، فالوضع هنا مستعار للجعل، فهو كالإنزال في قوله: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْـمِيزَانَ}. ومن ذلك: قول أبي طلحة الأنصاري – رضي الله عنه -: (وإن أحبَّ أموالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة لله، فضعها يا رسول الله! حيث أراك الله) أي: اجعلها وعيِّنها لما يدُلُّك الله عليه؛ فإطلاق الوضع في الآية بعد ذكر رفع السماء مشاكلة ضدية، وإيهامُ طباق مع قوله: {رَفَعَهَا} ففيه محسِّنان بديعيان.

وقرن ذلك مع رفع السماء تنويهاً بشأن العدل بأن نُسِبَ إلى العالم العلوي، وهو عالم الحق والفضائل، وأنه نزل إلى الأرض من السماء؛ أي: هو مما أمر الله به، ولذلك تكرر ذكر العدل مع ذكر خلق السماء؛ كما في قوله – تعالى -: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْـحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إلاَّ بِالْـحَقِّ} [يونس: ٥]، وقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلاَّ بِالْـحَقِّ} [الحجر: ٥٨]، وقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إلاَّ بِالْـحَقِّ} [الدخان: ٨٣ – ٩٣]. وهذا يصدِّق القول المأثور: (بالعدل قامت السماوات والأرض). وإذ قد كان الأمر بإقامة العدل من أهمِّ ما أوصى الله به إلى رسوله – صلى الله عليه وسلم – قُرن ذكر جعله بذكر خلق السماء، فكأنه قيل: ووضع فيها الميزان… وقوله – تعالى -: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} عطف على جملة {أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْـمِيزَانِ} على احتمال كون المعطوف عليها تفسيرية… والمعنى: اجعلوا العدل ملازماً لما تقوِّمونه من أموركم؛ كما قال – تعالى -: {وَإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: ٢٥١]، وكما قال: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا} [المائدة: ٨]، فيكون قوله: {بِالْقِسْطِ} ظرفاً مستقراً في موضع الحال، أو الباء للسببية، أي: راعوا في إقامة التمحيص ما يقتضيه العدل»[7].

 

انتهى قول ابن عاشور.

 

 

كتبها للإذاعة وأعدها: خليفة محمد – الأردن

 

ketaab-almeezaan-khaleefah-mohammad-archeive-09.pdf