بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام (ح176) يجوز أن تتعدد درجات المحاكم لأنواع القضايا, ولا توجد محاكم استئناف, ولا تمييز
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح176) يجوز أن تتعدد درجات المحاكم لأنواع القضايا, ولا توجد محاكم استئناف, ولا تمييز
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنْعَامْ, وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ, وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ, وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ, والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ, خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ, وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ, الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ, وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ, وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا: “بُلُوغُ المَرَامِ مِنْ كِتَابِ نِظَامِ الِإسْلَامِ”وَمَعَ الحَلْقَةِ السَّادِسَةِ والسَّبْعِينَ بَعدَ المِائَةِ, وَعُنوَانُهَا:”يَجُوزُ أَنْ تَتَعَدَّدَ دَرَجَاتُ الـمَحَاكِمِ لِأَنَواعِ القَضَايَا, وَلَا تُوجَدُ مَحَاكِمُ استِئْنَافٍ وَلَا تَميِيزٍ”. نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَتَينِ: الحَادِيَةَ عَشْرَةَ, وَالثَّانَيِةَ عَشْرَةَ بَعْدَ الـمِائَةِ مِنْ كِتَابِ “نظامُ الإسلام” لِلعَالِمِ والـمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:
المادة 82: يَجُوزُ أَنْ تَتَعَدَّدَ دَرَجَاتُ الـمَحَاكِمِ بِالنِّسْبَةِ لِأَنوَاعِ القَضَايَا، فَيَجُوزُ أَنْ يُخَصَّصَ بَعْضُ القُضَاةِ بِأَقْضِيَةٍ مُعَيَّنَةٍ إِلَى حَدٍّ مُعَيَّنٍ، وَأَنْ يُوَكَّلَ أَمْرُ غَيرِ هَذِهِ القَضَايَا إِلَى مَحَاكِمَ أُخْرَى.
المادة 83: لَا تُوجَدُ مَحَاكِمُ استِئْنَافٍ، وَلَا مَحَاكِمُ تَميِيزٍ، فَالقَضَاءُ مِنْ حَيثُ البَتُّ فِي القَضِيَّةِ دَرَجَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِذَا نَطَقَ القَاضِي بِالحُكْمِ فَحُكْمُهُ نَافِذٌ، وَلَا يَنقُضُهُ حُكْمُ قَاضٍ آخَرَ مُطْلَقًا إِلَّا إِذَا حَكَمَ بِغَيرِ الإِسلَامِ، أَو ْخَالَفَ نَصًّا قَطعِيًّا فِي الكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوْ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، أَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حَكَمَ حُكْمًا مُخَالِفًا لِحَقِيقَةِ الوَاقِعِ.
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: يَا أُمَّةَ الإِيمَانْ, يَا أُمَّةَ القُرآنْ, يَا أُمَّةَ الإِسلَامْ, يَا أُمَّةَ التَّوحِيدْ, يَا مَنْ آمَنتُمْ بِاللهِ رَبًّا, وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا وَرَسُولًا, وَبِالقُرآنِ الكَرِيمِ مِنهَاجًا وَدُستُورًا, وَبِالإسلَامِ عَقِيدَةً وَنِظَامًا لِلْحَياَة,ِ أَيُّهَا الـمُسلِمُون فِي كُلِّ مَكَانْ, فَوقَ كُلِّ أَرضٍ, وَتَحتَ كُلِّ سَمَاءْ, يَا خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ لِلنَّاسِ, أَيُّهَا الـمُؤمِنُونَ الغَيُورُونَ عَلَى دِينِكُمْ وَأُمَّتِكُمْ. أعَدَّ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ هُوَ وَإِخوَانُهُ العُلَمَاءُ فِي حِزْبِ التَّحرِيرِ دُستُورَ الدَوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ, وَهَا هُوَ يُوَاصِلُ عَرْضَهُ عَلَيكُمْ حَتَّى تدرُسُوهُ وَأنتمْ تَعْمَلُونَ مَعَنَا لإِقَامَتِهَا,وَهَاتَانِ هُمَا الـمَادَّتَانِ: الثَّانِيَةُ وَالثَّمَانُونَ, وَالثَّالِثَةُ وَالثَّمَانُونَ.وَإِلَيكُمْ بَيَانَ أَدِلَّةِ هَاتَينِ الـمَادَّتَينِ مِنْ كِتَابِ مَقَدِّمَةِ الدُّستُورِ:
أولا: المادة 82:دَلِيلُهَا أَنَّ القَضَاءَ هُوَ استِنَابَةٌ مِنَ الخَلِيفَةِ، وَهِيَ كَالوَكَالَةِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ مِنْ غَيرِ أَيِّ فَرْقٍ بَينَهُمَا، إِذْ هِيَ مِنَ الوَكَالَةِ، وَتَجُوزُ الوَكَالَةُ عَامَّةً، وَتَجُوزُ خَاصَّةً، وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَعُيَّنَ القَاضَي قَاضِيًا فِي قَضَايَا مُعَيَّنَةٍ، وَيُمنَعَ مِنْ غَيرِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُعَيَّنَ غَيرُهُ فِي غَيرِهَا، وَفِيمَا عُيِّنَ لَهُ هُوَ، وَلَو فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، أَوْ فِي غَيرِ مَا عُيِّنَ لَهُ هُوَ، وَمِنْ هُنَا جَازَ تَعَدُّدُ دَرَجَاتِ الـمَحَاكِمِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مَوجُودًا عِندَ الـمُسْلِمِينَ فِي الأَعْصُرِ الأُولَى، يقَوُلُ الـمَاوَردِيُّ فِي كِتَابِهِ (الأَحْكَامُ السُّلطَانِيَّةُ): “قَالَ أَبُو عَبدِ اللهِ الزُبَيرِيُّ: لَـمْ تَزَلِ الأُمَرَاءُ عِندَنَا بِالبَصْرَةِ بُرهَةً مِنَ الدَّهْرِ يَستَقُضُونَ قَاضِيًا عَلَى الـمَسْجِدِ الجَامِعِ يُسَمُّونَهُ(قَاضِي الـمَسْجدِ) يَحْكُمُ فِي مِائَتَي دِرْهَمٍ وَعِشرِينَ دِينَارًا فَمَا دُونَـهَا. وَيَفْرِضُ النَّفَقَاتِ، وَلَا يَتَعَدَّى مَوضِعَهُ وَمَا قُدِّرَ لَهُ”. وَالرَّسُولُصلى الله عليه وسلم أَنَابَ عَنهُ فِي القَضَاءِ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا حَصَلَ فِي إِنَابَتِهِ لِعَمْرٍو بْنِ العَاصِ، وَأَنَابَ عَنهُ فِي القَضَاءِ فِي جَمِيعِ القَضَايَا فِي وِلَايَةٍ مِنَ الوِلَايَاتِ كَمَا حَصَلَ فِي إِنَابَتِهِ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه عَلَى قَضَاءِ اليَمَنِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَخصِيصِ القَضَاءِ وَجَوَازِ تَعْمِيمِهِ.
ثانيا: المادة 83: هَذِهِ الـمَادَّةُ تُبَيِّنُ أَنَّ حُكْمَ القَاضِي لَا يُنقَضُ لَا مِنْ قِبَلِهِ هُوَ, وَلَا مِنْ قِبَلِ قَاضٍ آخَرَ غَيرِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ القَاضِي لَا يُنقَضُ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ حَكَمَ فِي مَسَائِلَ بِاجتِهَادِهِ وَخَالَفَهُ عُمَرُ, وَلَـمْ يَنقُضْ أَحْكَامَهُ، وَعَلِيٌّ خَالَفَ عُمَرَ فِي اجتِهَادِهِ فَلَمْ يَنقُضْ أَحْكَامَهُ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ خَالَفَهُمَا عَلِيٌّ, فَلَمْ تُنقَضْ أَحْكَامُهُمَا. أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيبَةَ فِي الـمُصَنَّفِ عَنْ سَالِـمٍ قَالَ: “جَاءَ أَهْلُ نَجْرَانَ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الـمُؤْمِنِينَ, كِتَابُكَ بِيَدِكَ, وَشَفَاعَتُكَ بِلِسَانِكَ, أَخْرَجَنَا عُمَرُ مِنْ أَرْضِنَا, فَاردُدْنَا إِلَيهَا, فَقَالَ لَـهٌمْ عَلِيٌّ:”وَيحَكُمْ إِنَّ عُـمَـرَ كَانَ رَشِـيدَ الأَمْرِ, وَلَا أُغَيِّرُ صَنْعَةَ عُمَرَ”. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ حَكَمَ فِي الْمُشَرَّكَةِ بِإِسْقَاطِ الإِخْوَةِ مِنَ الأَبَوَينِ. ثُـمَّ شَرَّكَ بَينَهُمْ وَقَالَ: “تِلْكَ عَلَى مَا قَضَينَا, وَهَذِهِ عَلَى مَا قَضَينَا”. وَأَنْفَذَ الحُكْمَينِ مَعَ تَنَاقُضِهِمَا، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الـمُغنِي، وَالبَيهَقِيُّ عَنِ الحَكَمِ بْنِ مَسعُودٍ الثَّقَفِيِّ. وَقَضَى فِي الجَدِّ بِقَضَايَا مُختَلِفَةٍ, وَلَـمْ يَرُدَّ الأُولَى، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ البَيهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الكُبرَى.وَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّ شُرَيحًا حَكَمَ فِي ابنَي عَمٍّ، أَحَدِهِمَا أَخٌ لِأُمٍّ، أَنَّ الـمَالَ لِلأَخِ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه فَقَالَ: عَلَيَّ بِالعَبدِ، فَجِيءَ بِهِ، فَقَالَ: فِي أَيِّ كِتَابِ اللهِ وَجَدْتَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ). (الأنفال 75) فَـقَـالَ لَهُ عَلِيٌّ: قَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَو أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنهُمَا السُّدُسُ). (النساء12) وَنَقَضَ حُكْمَهُ، كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، فَقَدْ أَجَابَ ابْنُ قُدَامَةَ عَلَى ذَلِكَ فِي الـمُغنِي فِي كِتَابِ القَضَاءِ بِقَولِهِ: (لَـمْ يَثْبُتْ عِندَنَا أَنَّ عَلِيًّا نَقَضَ حُكْمَهُ، وَلَو ثَبَتَ فَيُحتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلِيُّرضي الله عنه اعتَقَدَ أَنَّهُ خَالَفَ نَصَّ الكِتَابِ فِي الآيَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فَنَقَضَ حُكْمَهُ).
وَلَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ حَكَمُوا فِي مَسَائِلَ بِاجتِهَادِهِمْ، وَكَانَ يُخَالِفُهُمْ فِي ذَلِكَ الخَلِيفَةُ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ, وَفِي عَهْدِ عُمَرَ, وَفِي عَهْدِ عَلِيٍّ, وَلَـمْ يَنقُضْ أَحَدُهُمْ حُكْمَ الآخَرِ، وَالثَّابِتُ أَنَّ عُمَرَ قَدْ حَكَمَ أَحْكَامًا مُتَبَايِنَةً فِي مَسأَلَةٍ وَاحِدَةٍ, وَأَنْفَذَ كُلَّ الأَحْكَامِ، وَثَبَتَ أَنَّهُ قَالَ فِي ذَلِكَ: “تِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا, وَهَذِهِ عَلَى مَا قَضَينَا” ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الـمُغنِي وَالبَيهَقِيُّ عَنِ الحَكَمِ بْنِ مَسعُودٍ الثَّقَفِيِّ، وَهَذَا كَانَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى عَدَمِ نَقْضِ أَحْكَامِ القُضَاةِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الـمُغنِي: “وَأَمَّا إِذَا تَغَيَّرَ اجتِهَادُهُ مِنْ غَيرِ أَنْ يُخَالِفَ نَصًّا, وَلَا إِجْمَاعًا، أَوْ خَالَفَ اجتِهَادُهُ اجْتِهَادَ مَنْ قَبْلَهُ، لَـمْ يَنقُضْهُ لِـمُخَالَفَتِهِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ”.
وَأَمَّا مَا يُروَى فِي رِسَالَةِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه لِأَبِي مُوسَى مِنْ قَولِهِ: “وَلَا يَمْنَعْكَ قَضَاءٌ قَضَيتَهُ بِالأَمْسِ، ثُمَّ رَاجَعْتَ فِيهِ نَفْسَكَ, وَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ، أَنْ تَرجِعَ إِلَى الحَقِّ، فَإِنَّ الحَقَّ قَدِيمٌ, وَالرُّجُوعَ إِلَى الحَقِّ خَيرُ مِنَ التَّمَادِي فِي البَاطِلِ”.(رَوَاهُ البَيهَقِيُّ فِي السُّنَنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُردَةَ، وَالخَطِيبُ البَغْدَادِيُّ فِي التَّارِيخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِيهِ، وَالدَّارقُطنِيُّ عَنْ أَبِي المليحِ الـهُذَلِيِّ)، فَإِنَّ الـمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الرِّسَالَةِ هُوَ أَنَّ الحُكْمَ الَّذِي قَضَيْتَ بِهِ أَمْسِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَكَ خَطَؤُهُ أَنْ تَرجِعَ عَنهُ فِي حَادِثَةٍ أُخرَى, وَتَحْكُمَ بِخِلَافِهِ، وَلَيسَ مَعْنَاهُ نَقْضُ مَا حَكَمْتَ بِهِ أَمْسِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: “أَنْ تَرجِعَ إِلَى الحَقِّ” وَلَـمْ يَقُل: أَنْ تَرجِعَ عَنْ حُكْمِكَ، وَالرَّجُوعُ إِلَى الحَقِّ هُوَ تَركُ الرَّأيِ الخَطَأِ, وَالرُّجُوعُ إِلَى الصَّوَابِ. فَلَيسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ نَقْضِ الحُكْمِ مَادَامَ الحُكْمُ قَدْ تَمَّ استِنَادًا إِلَى الشَّرعِ؛ وَلِهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الإِسلَامِ مَا يُسَمَّى بِالسَّوَابِقِ القَضَائِيَّةِ، أَيْ بِأَنَّ القَضِيَّةَ سَبَقَ أَنْ حُكِمَ فِيهَا بِكَذَا، بَلْ إِذَا سَبَقَ أَنْ حُكِمَ بِقَضِيَّةٍ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ, فَإِنَّ هَذَا الحُكْمَ لَا يُلزِمُ أَحَدًا أَنْ يَسِيرَ عَلَيهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ بِغَيرِهِ فِي مِثْلِ تِلْكَ القَضِيَّةِ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ القَاضِي أَنَّ الأَصْوَبَ هُوَ الحُكْمُ الجَدِيدُ. أَمَّا القَضِيَّةُ نَفْسُهَا الَّتِي حُكِمَ فِيهَا سَابِقًا، فَلَا يَحِلُّ لِلقَاضِي أَنْ يَرجِعَ عَنْ هَذَا الحُكْمِ، وَلَا يُغَيِّرَهُ. وَمِنْ هُنَا لَا تُوجَدُ فِي الإِسلَامِ مَحَاكِمُ استِئْنَافٍ وَلَا مَحَاكِمُ تَميِيزٍ، بَلِ القَضَاءُ مِنْ حَيثُ البَتُّ دَرَجَةٌ وَاحِدَةٌ لَيسَ غَيرَ. وَالقَاعِدَةُ الشَّرعِيَّةُ (الاجْتِهَادُ لَا يُنقَضُ بِمِثْلِهِ) فَلَيسَ أَيُّ مُجتَهِدٍ بِحُجَّةٍ عَلَى مُجتَهِدٍ آخَرَ؛ فَلَا يَصِحُّ وُجُودُ مَحَاكِمَ تَنقُضُ أَحْكَامَ مَحَاكِمَ أُخرَى.إِلَّا أَنَّ القَاضِي إِنْ تَرَكَ الحُكْمَ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الإِسلَامِيَّةِ، وَحَكَمَ بِأَحْكَامِ الكُفْرِ، أَوْ إِنْ حَكَمَ بِحُكْمٍ يُخَالِفُ نَصًّا قَطْعِيًّا مِنَ الكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوْ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، أَوْ حَكَمَ حُكْمًا مُخَالِفًا لِحَقِيقَةِ الوَاقِعِ، كَأَنْ حَكَمَ عَلَى شَخْصٍ بِالقِصَاصِ عَلَى أَنَّهُ قَاتِلُ عَمْدٍ، ثُمَّ ظَهَرَ القَاتِلُ الحَقِيقِيُّ، فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الحَالَاتِ وَأَمْثَالِـهَا يُنْقَضُ حُكْمُ القَاضِي؛ وَذَلِكَ لِقَولِهِ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ». رَوَاهٌ البُخَارِيُّ وَمُسلِمُ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ رضي الله عنها.
وَلِـمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبدِ اللهِ: «أَنَّ رَجُلاً زَنَى بِامْرَأَةٍ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَجُلِدَ الْحَدَّ، ثُمَّ أُخْبِرَ أَنَّهُ مُحْصَنٌ فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ»، وَلِـمَا رَوَى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فِي الـمُوَطَّأِ (أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أُتِيَ بِامْرَأَةٍ قَدْ وَلَدَتْ فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُرْجَمَ فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَيْهَا إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا). (الأَحقَافُ 15). وَقَالَ: (وَالوَالِدَاتُ يُرضِعْنَ أَولَادَهُنَّ حَولَينِ كَامِلَينِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ). (البقرة 233) فَالْحَمْلُ يَكُونُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَلا رَجْمَ عَلَيْهَا فَبَعَثَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فِي أَثَرِهَا فَوَجَدَهَا قَدْ رُجِمَتْ». وَأَخْبَرَ عَبدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الإِمَامِ الثَّورِيِّ قَالَ: «إِذَا قَضَى القَاضِي بِخِلَافِ كِتَابِ اللهِ، أَوْ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ، أَوْ شَيءٍ مُجْمَعٍ عَلَيهِ، فَإِنَّ القَاضِي بَعْدَهُ يَرُدُّهُ».وَالَّذِي لَهُ صَلَاحِيَّةُ نَقْضِ هَذِهِ الأَحْكَامِ هُوَ قَاضِي الـمَظَالِـمِ.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم عَلى حُسنِ استِمَاعِكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.