الميزان
ميزان الفكر والنفس والسلوك
الحلقة الثالثة والعشرون
1- الرزق بيد الله وحده: هذه قضية من القضايا الكبرى التي تؤرق مضجع الإنسان وتقلقه، خوفه على رزقه ورزق أولاده، وتشكل عنده عقدة من العقد الصغرى _بالنسبة إلى العقدة الكبرى_، وقد جاءت العقيدة الإسلامية بالحل الشافي لهذه العقدة، والميزان القويم الذي يحدد موقف الإنسان من مسألة الرزق والخوف عليه، وخلاصة هذا الحل أن الله تعالى هو من خلق الرزق، وهو وحده الذي قسمه بين عباده، وقسم لكل عبد رزقه منذ نفخ الروح فيه وهو جنين في بطن أمه حتى يموت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نفث روح القدس في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها وما قدر لها)، ويقول الله سبحانه وتعالى: (ورزقكم في السماء وما توعدون)، ويقول عز وجل: (أهم يقسمون رحمة ربك؟ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً، ورحمة ربك خير مما يجمعون).
وليس الأمر متعلقاً برزق الإنسان وحده، بل كذلك يتعلق برزق أولاده، لأن في فطرة الإنسان أن يخاف على مستقبل أولاده وعلى رزقهم، فمستقبلهم كمستقبله داخل ضمن الإيمان بالقضاء والقدر، ورزقهم كرزقه قسمه الله سبحانه لهم كما قسمه له، يقول الله سبحانه وتعالى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق، نحن نرزقهم وإياكم)، فنهى سبحانه وتعالى عن قتل الأولاد خوف الفقر، وأخبر أنه يرزقهم ويرزقنا، وقال سبحانه: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق، نحن نرزقكم وإياهم) والنهي هنا عن قتلهم بسبب الفقر، وأخبر سبحانه أنه يرزقنا ويرزقهم.
وهكذا يسير الإنسان في حياته لا يخشى الموت ولا يخشى ما يمكن أن يقع من القضاء والقدر ولا يخشى قلة الرزق أو انقطاعه، ولا يخاف على أولاده ولا على رزقهم، فهو مقسوم لهم كما هو مقسوم له، فينطلق في حياته آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر عاملاً بالحق صادعاً به، مستودعاً نفسه وأهله وأولاده عند من لا تضيع عنده الودائع، مطمئناً على نفسه وأهله وولده، وعلى حاضره ومستقبله راجياً رضوان الله تعالى، فلا يقف في الدنيا في وجهه شيء، محققاً أعظم الغايات، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وتابعوهم بإحسان.
فالعبرة في هذه الحياة الدنيا أن يسير فيها بحسب أوامر الله ونواهيه وأن يسير بحسب ما كُلِّفَ به، ورزقه مقسوم له لا يمنعه منه أحد، بل إنه سبحانه أخبرنا عن طاعات يزيد بها الله سبحانه رزق عباده، فقال سبحانه: (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب)/6، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يبسط الله له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه)، ويقول سبحانه وتعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض)، ويقول سبحانه أيضاً عن بني إسرائيل: (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم)، وضرب لنا سبحانه أمثالاً عمن كفروا أو عصوا كيف أنهم حرموا الرزق الواسع، فهؤلاء قوم سبأ: (لقد كان لسبأٍ في مسكنهم آية، جنتان عن يمين وشمال، كلوا من رزق ربكم واشكروا له، بلدة طيبة ورب غفور، فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل، ذلك جزيناهم بما كفروا، وهل نجازي إلا الكفور).
وأولئك أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون، وعزموا ألا يدخلنها عليهم مسكين، فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون، فأصبحت كالصريم، فحرموا ذلك الرزق الواسع لما منعوها من الفقراء والمساكين.
وذلك صاحب الجنتين الذي اغترّ بجنتيه وقال لصاحبه وهو يحاوره: أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً، فما كان إلا أن أحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها حسرة وندامة على ما فرط في حق الله فيها، وعدم نسبة الفضل إلى الله تعالى.
وتلك مريم عليها السلام، كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً، قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليحرم الرزق بالمعصية..) فالرزق مرهون بأمر الله سبحانه وتعالى وتقسيمه وتدبيره، وليس مرتبطاً بعمل أو سعي، ولا بإرضاء فلان وعلان، ولا بالسعي في إرادة أمريكا أو غيرها من الدول، ولا بالمساعدات الأمريكية، ولا بقروض صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي، التي لم تجلب للأمة إلا الدمار، ولا بالإبقاء على المعاهدات مع أعداء الأمة، إنما الرزق من عند الله تعالى، وبطاعته سبحانه وتقواه يزداد.
كتبها للإذاعة وأعدها: خليفة محمد – الأردن