حكومة حمدوك الانتقالية وسراب القروض والمعونات
منذ أدائه القسم رئيساً للوزراء لفترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات، أشار حمدوك إلى أن السودان يمتلك موارد هائلة يمكن أن تجعل منه دولة قوية، وقال في مقابلة مع بي بي سي في 2019/09/27م: (السودان بلد غني لا نريد طريق الهبات والمعونات)، وفي مقابلة مع سكاي نيوز عربية مساء الأربعاء 2019/08/21م قال: (سنعمل على معالجة الأزمة الاقتصادية، وبناء اقتصاد وطني يقوم على الإنتاج وليس الهبات والمعونات)، وقال: (نحن بلد غني نستطيع الاعتماد على مواردنا الذاتية)، وركز في مؤتمر صحفي، عقب أدائه اليمين، على (بناء اقتصاد قائم على الإنتاج لا على المعونات والهبات)، الجزيرة نت 2019/08/21، وادعى (أن السودان قادر على تحقيق التنمية الاقتصادية، بالتوظيف الأمثل للموارد الذاتية، وتسخير الإمكانيات المتاحة). “الشرق الأوسط 2019/08/23م”. بيد أنه نسي مقولاته تلك، وطفق يستجدي التمويل من البنوك، ومؤسسات مالية، ومنظمات، ودول، ولا يهم سواء أكان التمويل بالقروض، أو الهبات، أو الإعانات أو غيرها، وذلك لخلو جعبة الحكومة الانتقالية من أي حل، وخواء خزينتها من أي مال.
نعم، لقد ترك النظام البائد اقتصاداً مثقلاً على البلاد، فقد أوضحت البيانات الواردة في تقرير مشترك بين البنك الدولي ووزارة المالية والتخطيط الاقتصادي، صادرة في أيار/مايو 2019م، أن أصل الدين الخارجي يراوح بين 17 و18 مليار دولار، والمتبقي من إجمالي الدين بنسبة 85 في المائة عبارة عن ربا وجزاءات، بدأت في التراكم منذ عام 1958م، حتى بلغت 58 مليار دولار. ويسعى حمدوك للوصول أولاً إلى تفاهمات حول ربا الدين السيادي، والتي تبلغ حوالي ثلاثة مليارات دولار، ما يستدعي تفاهمات، ولقاءات مع صندوق النقد والبنك الدوليين، للاستفادة من برامج الإعفاءات، وجدولة الديون والحصول على المنح والقروض.
ومن فوره هذا، شرع حمدوك في الدخول في محادثات مع صندوق النقد والبنك الدوليين، لمناقشة إعادة هيكلة الديون، وبدأ في التواصل مع من سماهم بالدول الصديقة، وهيئات التمويل العالمية، بشأن ميزانية وزير ماليته للعام 2020م، وبرنامجه الاقتصادي، لكنه وجد نفسه (مكتّفاً) ومحاطاً ومربوطاً بإحكام، بمعضلة أمريكية، استعصت عليه أن يتخطاها، وهي (قائمة الإرهاب الأمريكية). قال وكيل وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية، ديفيد هيل، في 2019/08/8م، (إن واشنطن ترهن رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب بالاستجابة للشواغل الأمريكية المتعلقة بمكافحة الإرهاب). “عربي بوست، رويترز، الأناضول في 2019/08/24م”. وكأني أرى رئيس الوزراء قد أسرّ في نفسه لعنة كبيرة على الساسة الأمريكان، لكنه تجاهل ببرود (كبرود أسياده الإنجليز في التعامل مع الملفات الساخنة)، وتغافل عن هذه المعضلة، وظن أنه (لمس رغبة صادقة من الولايات المتحدة الأمريكية لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب) “بي بي سي 2019/09/27م”، ثم بدأ جولاته مع مجموعة أصدقاء السودان، وعقد أول اجتماع بشكل رسمي وموسع، خلال تشرين الأول/أكتوبر الماضي في واشنطن، ثم عقدت اجتماعات متتالية في واشنطن وبروكسل وبرلين في آذار/مارس، وأيار/مايو، وتموز/يوليو، وتشرين أول/أكتوبر الماضي. ثم التقوا به مساء الأربعاء 2019/12/11م، بقاعة الصداقة بالخرطوم في مؤتمر فاشل، برئاسة النرويج، ومشاركة صندوق النقد والبنك الدوليين، وبنك التنمية الأفريقي، والاتحاد الأوروبي (فرنسا، ألمانيا، هولندا، النرويج، السويد)، والكويت، قطر، السعودية، الإمارات، بريطانيا، وأمريكا، والأمم المتحدة.
وكان يرغب في هذا الاجتماع (استقطاب مبلغ 5 مليارات دولار لدعم موازنة 2020 لتغطية عشرين مشروعاً في مجالات المرافق والخدمات الحيوية…) “إندبندنت عربية الأربعاء 11 كانون الأول/ديسمبر 2019م”، وهو المبلغ الذي طلبه وزير المالية عاجلاً، وإلا سينهار اقتصاد السودان! لكنهم لم يفعلوا، بل أصدروا بياناً، وليس معونات، ولا هبات، ولا قروض، بل تسويفات، وتمديد للزمن! أكد السفير السعودي لدى الخرطوم علي حسين جعفر لـ”إندبندنت عربية” أن السعودية “ستدرس المشروعات المقدمة من حكومة السودان لتقدم رؤيتها ومشاركتها في هذا الخصوص”! أما نائبة وزير الخارجية النرويجي ماريان هيغان، فقد دعت السودان، إلى عدم الاعتماد على الموارد الخارجية، التي وصفتها بالانتقالية، ثم كالت بالمديح، استدراجاً، وتطميناً لحمدوك، وعبرت بكل سرور عن نجاح حمدوك في فتح حوار إيجابي مع حكومة الولايات المتحدة، لإزالة السودان من الدول الداعمة للإرهاب. بل أجمع المجتمعون على شروط مذلة، منها العملية السلمية مع الجماعات المسلحة، وأهمية الانتقال من العون الإنساني إلى الاعتماد الذاتي والتنمية المستدامة…إلخ، عموماً اقترح المشاركون في بيانهم الختامي، هزيل المحتوى، أن تستضيف السويد الاجتماع القادم لأصدقاء السودان، في النصف الأخير من شباط/فبراير 2020م (ومهدوا لعقد المؤتمر الدولي لإعلان التبرعات، المقرر عقده منتصف العام المقبل 2020م) الشرق الأوسط 2019/12/12م.
أرأيت كيف أنهم كذبوا وتولوا، بعد أن رحبت بهم الحكومة الانتقالية، وفتحت لهم الأبواب مشرعة، ليدلي كل منهم دلوه في صندوق حمدوك الخاص بالتبرعات، والهبات ممن سماهم الأصدقاء! بل حتى القروض الربوية لم تحصل عليها الحكومة. وليس مستغرباً هذا السلوك، من هذه المنظمات والمؤسسات والدول الـ (24) المجتمعة، وغيرهم من بني جنسهم وملتهم، فهي سمة ملازمة لمن كان إلهه مصالحه وهواه! وصدق المولى عز وجل، القائل في كتابه الكريم: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: (يُبَيِّنُ بِذَلِكَ تَعَالَى شِدَّةَ عَدَاوَةِ الْكَافِرِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، لِيَقْطَعَ الْمَوَدَّةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ…) ويقول القرطبي: (… نفى عن قلوبهم الودّ والمحبة)، وقال الشوكاني: (وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَا يَوَدُّونَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَيُّ خَيْرٍ كَانَ) ومن كان هذا شأنه فلا يتوقع الخير منه، ما دامت السماوات والأرض.
هؤلاء هم من تسميهم الحكومة الانتقالية (أصدقاء)، لا، بل ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾، فقد أضافوا في مؤتمرهم هذا شروطاً فوق الشروط الأمريكية السابقة، وهو الالتزام بأهداف التنمية المستدامة، على لسان النرويجية ماريان هيغان، رئيسة المؤتمر، حيث قالت في كلمتها: (يجب أن تكون ميزانية 2020م لصالح التنمية المستدامة…) “شينخوا 2019/12/11م”. ثم انفضوا غير مأسوفين على السودان، ولا على اقتصاده، ولا على الدمار الذي خلفه النظام البائد!
إن الكافرين عموماً، والدول الاستعمارية بخاصة، لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، فهم أمة بعقيدتها وحضارتها، ونحن المسلمين أمة من دون الناس. ودول الضرار القائمة في بلاد المسلمين، لا تمثل الأمة بحال، بل هي رأس حربة للكافر المستعمر. فمن أراد قيادة المؤمنين، فعليه أن يقيم دولة المسلمين الخلافة على منهاج النبوة، ففيها نظام يربط البشرية برب العالمين، ويقيم علاقاتهم فيما بينهم بنظام من لدن اللطيف الخبير.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
يعقوب إبراهيم – الخرطوم
2019_12_16_Art_Hamdock_transitional_government_and_the_mirage_of_loans_and_aid_AR_OK.pdf