تأملات في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية”
الحلقة الحادية والثلاثون
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وسيد المرسلين، المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، واجعلنا معهم، واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها المسلمون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: في هذه الحلقة نواصل تأملاتنا في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية”. ومن أجل بناء الشخصية الإسلامية، مع العناية بالعقلية الإسلامية والنفسية الإسلامية، نقول وبالله التوفيق: عنوان حلقتنا لهذا اليوم هو “الدعاء”. الدعاء عبادة، بل هو مخ العبادة لقوله سبحانه وتعالى: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}. (غافر60) فالله جعل الدعاء في الآية الكريمة عبادة فذكر لفظ: {عبادتي} بعد ذكر لفظ {ادعوني}، وهذا على نحو قوله صلى الله عليه وسلم: “الدعاء مخ العبادة” أخرجه الترمذي من طريق النعمان بن بشير، وقال: حسن صحيح. فالدعاء عبادة، والله يحب عبده الذي يدعوه، فهو مندوب، ومن لم يدع الله يكون قد ترك خيرا كثيرا، فإن كان عدم دعاء الله سبحانه استكبارا كان صاحبه من جملة من قال الله فيهم: {سيدخلون جهنم داخرين}. أي أذلاء صاغرين مهانين.
إن الله سبحانه بين لنا كيف ندعوه ونحن مستجيبون له، نلتزم شرعه ونقتدي برسوله صلى الله عليه وسلم فقال: {فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون}. وكما قال صلى الله عليه وسلم: “… ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذى بالحرام فأنى يستجاب لذلك”. أخرجه مسلم. وأفضل أوقات الدعاء، أثناء السجود، وفي جوف الليل، ودبر الصلوات المكتوبات، عن أبي هريرة عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء”، وعن أبي أمامة عند الترمذي وقال حديث حسن قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الدعاء أسمع؟ قال: “جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات”. كما أن الدعاء في شهر رمضان له أجر عظيم. أخرج الترمذي، وقال حديث حسن، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ثلاثة لا ترد دعوتهم الصائم حتى يفطر والإمام العادل ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين”.
إن الدعاء – وهو عبادة – لا يعني أن نترك الأخذ بالأسباب. وسيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بينة في ذلك. فالرسول صلى الله عليه وسلم يجهز الجيش في بدر، ويرتب الجند كلا في موقعه، ويعدهم الإعداد الجيد للقتال، ثم يدخل صلى الله عليه وسلم العريش يدعو الله راجيا منه النصر، ويكثر من الدعاء فيقول: “اللهم انصر هذه العصابة، فإنك إن لم تفعل لم تعبد في الأرض”. حتى يقول له أبو بكر رضي الله عنه: “بعض مناشدتك ربك، فوالله لينجزن لك الذي وعدك”. ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أذن الله له بالهجرة من مكة إلى المدينة اتخذ كل ما يمكن أن يتخذه بشر من الأسباب التي تؤدي به إلى النجاة، في الوقت نفسه الذي يدعو الله فيه على كفار قريش أن يصرفهم الله عنه وينجيه من مكرهم، ويوصله المدينة سالما. فبدل أن يتجه صلوات الله وسلامه عليه إلى الشمال حيث المدينة، اتجه إلى الجنوب واختفى في غار ثور هو وأبو بكر رضي الله عنه، ثم كان يستقبل الأخبار عن قريش وما تخطط وتدبر له من قبل عبد الرحمن بن أبي بكر، ثم عندما يعود إلى مكة يجعل غلام أبي بكر يرجع بالغنم إلى مكة خلفه ليطمس أثر الغنم أثر ابن أبي بكر لتضليل كفار قريش، وبقي ثلاثة أيام إلى أن خف الطلب عليه فواصل السير إلى المدينة المنورة، وكل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان واثقا من وصوله إلى المدينة سالما فهو يجيب أبا بكر وقد خشي وصول كفار قريش إليهما عندما رآهم أمام الغار، فيقول للرسول صلى الله عليه وسلم: لو نظر أحدهم إلى موطن قدميه لرآنا، فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم: “يا أبا بكر، لا تحزن إن الله معنا”. “يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما!”. {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}. (التوبة40). ثم إنه صلى الله عليه وسلم يقول لسراقة وقد أوشك على اللحاق بالرسول وأبي بكر في هجرتهما ليدل عليهما ويمسك بهما نظير الجائزة التي وضعتها قريش لذلك، يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بأن يرجع وله سوارا كسرى”. فرسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ بالأسباب لنقتدي به صلوات الله وسلامه عليه في الوقت الذي يدعو الله أن ينجيه من طلب كفار قريش له، وأن يرد كيدهم في نحرهم، فهو يخرج من بيته ليلا، ويجد الكفار يحيطون بالدار، فيقذف في وجوههم التراب. وهو مطمئن إلى استجابة الله له وصرفهم عنه، وهكذا تم فقد ضرب عليهم النوم وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم. فالدعاء لا يعني تعطيل الأخذ بالأسباب بل هو ملازم لها. فمن أحب أن تقام الخلافة من جديد فعليه أن لا يكتفي بدعاء ربه لتحقيق ذلك، بل يعمل مع العاملين لإيجادها، ويدعو الله أن يمده بالعون في ذلك والتعجيل بتحقيقها، ويلح في الدعاء خالصا لله، وهو يأخذ بالأسباب.
أيها المسلمون: وهكذا في جميع الأعمال، يخلص المرء العمل لله ويدعو ويلح في الدعاء والله سبحانه سميع مجيب الدعاء.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمد أحمد النادي