نظرة في مفهوم النصر
بحث كثير من الأفراد والجماعات مسألة النصر بشكل أو بآخر، فأحيانا يتحدثون عن النصر وأسبابه وشروطه، وأحيانا يتحدثون عن تأخر النصر، وأحيانا يتحدثون عن البشارات وقربها، وهكذا… ولن أضيف أي جديد بتكرار ما قيل أو كتب حول هذه المواضيع، إلا أني أردت أن أسلط الضوء على مسألتين اثنتين فقط أظن أنهما لم يحظيا بالتركيز الكافي، وهما:
أ. أن النصر أو الفرج يأتيان دون مقدمات – وهذا من أجمل ما في النصر.
ب. أن النصر أو الفرج يكونان للدين بالدرجة الأولى وليس بالضرورة لأشخاص بعينهم.
أما أن النصر أو الفرج يأتيان دون مقدمات، بل على العكس تماما فأحيانا تكون الوقائع والمعطيات والمقدمات لا تبشر بخير أبدا، فالأمثلة على ذلك كثيرة، منها:
1. في السنة العاشرة من البعثة مات عمّ نبينا محمد e الذي كان يحميه من قريش، وفي العام نفسه توفيت زوجه خديجة رضي الله عنها التي آزرته، ثم ذهب بعد ذلك إلى الطائف فردوه وضربوه وأدموه صلوات ربي وسلامه عليه، ثم كانت حادثة الإسراء والمعراج فكذبته قريش وارتد بعض من أسلم، وهكذا كان الحال يبدو وكأنه من سيئ إلى أسوأ. إلا أنه في السنة الثانية عشرة للبعثة كانت بداية الفرج ببيعة العقبة الأولى والتي تلتها بيعة العقبة الثانية وإقامة الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، وبهذا تحول حال رسولنا محمد e من رجل دعوة مضطهد إلى رجل دولة في ظرف ساعات.
2. كاد إخوة يوسف عليه السلام لأخيهم فألقوه في البئر، ثم ازداد المشهد تعقيدا بأن أصبح يوسف سلعة تباع وتشترى، ثم ازداد الأمر تعقيدا بأن أصبح خادما لعزيز مصر، ثم ازداد الأمر أكثر تعقيدا بأن أصبح سجينا… ولكن، وبعد هذا كله، جاء الفرج فأصبح يوسف عليه السلام عزيز مصر. وبمناسبة قصة يوسف عليه السلام، نجد اللفتة ذاتها – أن الفرج يأتي دون مقدمات – في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾.
أما أن النصر أو الفرج يكونان للدين بالدرجة الأولى وليس بالضرورة لأشخاص بعينهم، فكذلك الأمثلة كثيرة على ذلك منها:
1. قول الله تعالى لنبينا محمد e ﴿فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾، فليس بالضرورة أن يشهد المرء كل ما توعد الله به الكافرين. وقد انطبق ذلك على سمية وخديجة رضي الله عنهما، على سبيل المثال، حيث انتقلتا إلى جوار ربهما قبل أن تشهدا النصر والتمكين للدين.
2. قول رسول الله e لخباب بن الأرت رضي الله عنه عندما جاءه يطلب النصر، فقال مما قال: «والله ليُتمنَّ هذا الأمرَ». فلم يعِد رسول الله e خباباً بالنصر له كشخص، ولكنه بشر بالتمكين للدين.
وفي الختام، لا بد من القول بأن الاهتداء إلى الطريق الصحيح والثبات عليه هو أهم من تحقيق النصر، قال تعالى على لسان موسى عليه السلام: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾، ولم يقل “سينصرني”، وقال تعالى: ﴿رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً﴾، ولذلك تجدنا نقول في كل ركعة ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾. فالثبات الثبات على الطريقة الشرعية الموصلة بإذن الله إلى الغاية ولو بعد حين، واعلموا أن النصر كالجنين له موعد لظهوره وخروجه، فإن ظهر قبل أوانه ولد ميتا أو ضعيفا.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
جابر أبو خاطر