مع الحديث الشريف
نحييكم جميعا أيها الأحبة المستمعون في كل مكان، في حلقة جديدة من برنامجكم “مع الحديث الشريف” ونبدأ بخير تحية، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
روى البخاري في صحيحه قال: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ: “دَخَلْنَا عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَهُوَ مَرِيضٌ قُلْنَا أَصْلَحَكَ اللَّهُ حَدِّثْ بِحَدِيثٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِ سَمِعْتَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: دَعَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْنَاهُ فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ”
جاء في كتاب فتح الباري لابن حجر:
قَوْلُهُ (فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا): أَيْ اِشْتَرَطَ عَلَيْنَا. قَوْله (أَنْ بَايَعَنَا)، بِفَتْحِ الْعَيْن (عَلَى السَّمْع وَالطَّاعَة): أَيْ لَهُ
(فِي مَنْشَطِنَا): بِفَتْحِ الْمِيم وَالْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون بَيْنَهُمَا (وَمَكْرَهِنَا) أَيْ فِي حَالَة نَشَاطنَا وَفِي الْحَالَة الَّتِي نَكُون فِيهَا عَاجِزِينَ عَنْ الْعَمَل بِمَا نُؤْمَر بِهِ. وَنَقَلَ اِبْن التِّين عَنْ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ الْمُرَاد الْأَشْيَاء الَّتِي يَكْرَهُونَهَا، قَالَ اِبْن التِّين: وَالظَّاهِر أَنَّهُ أَرَادَ فِي وَقْت الْكَسَل وَالْمَشَقَّة فِي الْخُرُوج لِيُطَابِقَ قَوْله مَنْشَطنَا. قُلْت: وَيُؤَيِّدهُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بْن عُبَيْد بْن رِفَاعَة عَنْ عُبَادَةَ عِنْدَ أَحْمَد “فِي النَّشَاط وَالْكَسَل”.
قَوْله (وَعُسْرنَا وَيُسْرنَا): فِي رِوَايَة إِسْمَاعِيلَ بْن عُبَيْد “وَعَلَى النَّفَقَة فِي الْعُسْر وَالْيُسْرِ” وَزَادَ “وَعَلَى الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَرِ”.
قَوْله (وَأَثَرَة عَلَيْنَا): بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَالْمُثَلَّثَة وَقَدْ تَقَدَّمَ مَوْضِعُ ضَبْطهَا فِي أَوَّلِ الْبَاب، وَالْمُرَاد أَنَّ طَوَاعِيَتهمْ لِمَنْ يَتَوَلَّى عَلَيْهِمْ لَا تَتَوَقَّف عَلَى إِيصَالهمْ حُقُوقهمْ بَلْ عَلَيْهِمْ الطَّاعَة وَلَوْ مَنَعَهُمْ حَقَّهُمْ.
قَوْله (وَأَنْ لَا نُنَازِع الْأَمْر أَهْله): أَيْ الْمُلْك وَالْإِمَارَة، زَادَ أَحْمَد مِنْ طَرِيق عُمَيْر بْن هَانِئ عَنْ جُنَادَةَ “وَإِنْ رَأَيْت أَنَّ لَك – أَيْ وَإِنْ اِعْتَقَدْت أَنَّ لَك – فِي الْأَمْر حَقًّا فَلَا تَعْمَل بِذَلِكَ الظَّنّ بَلْ اِسْمَعْ وَأَطِعْ إِلَى أَنْ يَصِل إِلَيْك بِغَيْرِ خُرُوج عَنْ الطَّاعَة، زَادَ فِي رِوَايَة حِبَّان أَبِي النَّضْر عَنْ جُنَادَةَ عِنْدَ اِبْن حِبَّانَ وَأَحْمَد “وَإِنْ أَكَلُوا مَالَك وَضَرَبُوا ظَهْرَك” وَزَادَ فِي رِوَايَة الْوَلِيد بْن عُبَادَةَ عَنْ أَبِيهِ “وَأَنْ نَقُوم بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لَا نَخَاف فِي اللَّه لَوْمَة لَائِم” وَسَيَأْتِي فِي كِتَاب الْأَحْكَام.
قَوْله (إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا)
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: “مَعْنَى قَوْله بَوَاحًا يُرِيد ظَاهِرًا بَادِيًا مِنْ قَوْلهمْ بَاحَ بِالشَّيْءِ يَبُوح بِهِ بَوْحًا وَبَوَاحًا إِذَا أَذَاعَهُ وَأَظْهَرَهُ” وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَنْ رَوَاهُ بِالرَّاءِ فَهُوَ قَرِيب مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَأَصْل الْبَرَاح الْأَرْض الْقَفْرَاء الَّتِي لَا أَنِيس فِيهَا وَلَا بِنَاء، وَقِيلَ الْبَرَاح الْبَيَان يُقَال بَرَحَ الْخَفَاء إِذَا ظَهَرَ.
قَوْله (عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّه فِيهِ بُرْهَان)
أَيْ نَصّ آيَة أَوْ خَبَر صَحِيح لَا يَحْتَمِل التَّأْوِيل، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا يَجُوز الْخُرُوج عَلَيْهِمْ مَا دَامَ فِعْلهمْ يَحْتَمِل التَّأْوِيل، قَالَ النَّوَوِيّ: الْمُرَاد بِالْكُفْرِ هُنَا الْمَعْصِيَة، وَمَعْنَى الْحَدِيث لَا تُنَازِعُوا وُلَاة الْأُمُور فِي وِلَايَتهمْ وَلَا تَعْتَرِضُوا عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ تَرَوْا مِنْهُمْ مُنْكَرًا مُحَقَّقًا تَعْلَمُونَهُ مِنْ قَوَاعِد الْإِسْلَام؛ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَنْكِرُوا عَلَيْهِمْ وَقُولُوا بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ اِنْتَهَى. وَقَالَ غَيْره: الْمُرَاد بِالْإِثْمِ هُنَا الْمَعْصِيَة وَالْكُفْر، فَلَا يُعْتَرَض عَلَى السُّلْطَان إِلَّا إِذَا وَقَعَ فِي الْكُفْر الظَّاهِر، وَاَلَّذِي يَظْهَر حَمْل رِوَايَة الْكُفْر عَلَى مَا إِذَا كَانَتْ الْمُنَازَعَة فِي الْوِلَايَة فَلَا يُنَازِعهُ بِمَا يَقْدَح فِي الْوِلَايَة إِلَّا إِذَا اِرْتَكَبَ الْكُفْر، وَحَمْل رِوَايَة الْمَعْصِيَة عَلَى مَا إِذَا كَانَتْ الْمُنَازَعَة فِيمَا عَدَا الْوِلَايَة، فَإِذَا لَمْ يَقْدَح فِي الْوِلَايَة نَازَعَهُ فِي الْمَعْصِيَة بِأَنْ يُنْكِر عَلَيْهِ بِرِفْقٍ وَيَتَوَصَّل إِلَى تَثْبِيت الْحَقّ لَهُ بِغَيْرِ عُنْف، وَمَحَلّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ قَادِرًا وَاَللَّه أَعْلَم. وَنَقَلَ اِبْن التِّين عَنْ الدَّاوُدِيِّ قَالَ: الَّذِي عَلَيْهِ الْعُلَمَاء فِي أُمَرَاء الْجَوْر أَنَّهُ إِنْ قُدِرَ عَلَى خَلْعه بِغَيْرِ فِتْنَة وَلَا ظُلْم وَجَبَ، وَإِلَّا فَالْوَاجِب الصَّبْر. وَعَنْ بَعْضهمْ لَا يَجُوز عَقْد الْوِلَايَة لِفَاسِقٍ اِبْتِدَاء، فَإِنْ أَحْدَثَ جَوْرًا بَعْدَ أَنْ كَانَ عَدْلًا فَاخْتَلَفُوا فِي جَوَاز الْخُرُوج عَلَيْهِ، وَالصَّحِيح الْمَنْع إِلَّا أَنْ يُكَفَّر فَيُجِبْ الْخُرُوج عَلَيْهِ.
مستمعينا الكرام:
إن نص البيعة التي عقدها الرسول صلى الله عليه وسلم مع الأنصار في العقبة الثانية ــ وهي البيعة على الحكم ــ كانت بيعة مطلقة غير مقيدة بمدة معينة، وكذلك كانت بيعة الخلفاء الراشدين، غير مقيدة بمدة معينة، بل كانت بيعة على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله، فما استقام الخليفة على الحكم بالإسلام، فيحافظ على الشرع وينفذ أحكامه، قادراً على القيام بشؤون الدولة ومسؤوليات الخلافة فإنه يبقى خليفة.
ولقد رأينا الرسول صلى الله عليه وسلم حاكماً لدولة الإسلام إلى أن ارتقى للرفيق الأعلى، وكذلك الخلفاء الراشدون من بعده تولى كل منهم الخلافة منذ بويع حتى توفاه الله تعالى، فكان إجماعاً من الصحابة رضوان الله عليهم على أنه ليس للخلافة مدة محددة بل هي مطلقة، فإذا بويع خليفة يظل خليفة حتى ينتقل لجوار ربه.
لكن إذا طرأ على الخليفة طارئ يجعله معزولاً أو يستوجب العزل، فإن مدته تنتهي، ويعزل، وهذا ليس تحديدا لمدة خلافته، بل هو نتيجة لحدوث اختلال في شروط انعقاد الخلافة، وهذا واضح في صيغة البيعة في حديثنا لهذه الليلة، فقد جعل إظهار الخليفة للكفر البواح، موجباً لعصيانه والخروج عليه، بمعنى عزله من منصب الخلافة بسبب عدم حفاظه على الشرع وعدم تنفيذه لأحكامه.
مستمعينا الكرام، وإلى حين أن نلقاكم مع حديث نبوي آخر، نترككم في رعاية الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.