بسم الله الرحمن الرحيم
تأملات في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية”
الحلقة المائـة وست
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على إمام المتقين, وسيد المرسلين, المبعوث رحمة للعالمين, سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, واجعلنا معهم, واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها المسلمون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وبعد: في هذه الحلقة نواصل تأملاتنا في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية”. ومن أجل بناء الشخصية الإسلامية, مع العناية بالعقلية الإسلامية والنفسية الإسلامية, نقول وبالله التوفيق: عنوان حلقتنا لهذا اليوم هو: “أدب الحديث”. وهو ثلاثة أقسام: أدب التدريس, وأدب الخطبة, وأدب الجدل.
القسم الثالث: من أدب الجدل: الجدل هو التحاور، كما في قوله تعالى: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما}. (المجادلة). فسمى الله الجدل تحاورا. وحده: إدلاء كل من المختلفين بحجته أو بما يظن أنه حجة. والغرض منه نصرة رأيه أو مذهبه، وإبطال حجة خصمه ونقله إلى ما يراه صوابا أو حقا.
والجدل منه المطلوب شرعا لإحقاق الحق، وإبطال الباطل، ودليله قوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}. (النحل). وقوله: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}. (البقرة). ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جادل مشركي مكة، ونصارى نجران، ويهود المدينة. وحامل الدعوة يدعو إلى الخير، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويصارع الأفكار المضللة، وحيثما تعين الجدل أسلوبا لواجب من هذه الأعمال، صار الجدل واجبا، من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ومن الجدل ما هو مذموم شرعا فيكون كفرا كالجدل في الله وآياته: {وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال}. (الرعد13) {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا} (غافر4) {الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا}. (غافر56) {ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص}. (الشورى35) والذي يكفر هو المنكر لا المثبت، لأن المنكر يجادل ليدحض الحق، والمثبت يجادل لإحقاق الحق وإزهاق الباطل: {وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق}. (غافر5) {ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون}. (الزخرف58) والجدال في القرآن لإثبات أنه غير معجز، أو أنه ليس من عند الله كفر أيضا. أخرج أحمد عن أبي هريرة مرفوعا: “جدال في القرآن كفر” قال ابن مفلح إسناده جيد، وصححه أحمد شاكر. وقد يكون الجدل مكروها، كالجدال في الحق بعد ظهوره {يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون}. (الأنفال6)
والجدل إما أن يكون بحجة أي دليل، أو بشبهة دليل، أما الجدال بدونهما فهو شغب وتخليط، وقد عرفت الشبهة بأنها “ما تخيل به المذهب في صورة الحقيقة وليس كذلك”. وهذا تعريف ابن عقيل، وعرف ابن حزم الشغب بأنه: “تمويه بحجة باطلة بقضية أو قضايا فاسدة تقود إلى الباطل، وهي السفسطة”. قال ابن عقيل: “ومن أحب سلوك طريقة أهل العلم فإنما يتكلم على حجة أو شبهة، فأما الشغب فإنما هو تخليط أهل الجدل”. ويمكن القول: إن الشغب هو الجدل بدون دليل أو شبهة دليل. ومما أوصى به علماء المسلمين في قوانين الجدل وآدابه:
أولا: أن يقدم تقوى الله، ويقصد التقرب إليه، ويبتغي مرضاته بامتثال أمره.
ثانيا: أن ينوي إحقاق الحق وإبطال الباطل، دون المغالبة والقهر والظفر بالخصم. قال الشافعي: “ما كلمت أحدا قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان، وتكون عليه من الله رعاية وحفظ، وما كلمت أحدا قط إلا ولم أبال، بين الله الحق على لساني أو لسانه”. وقال ابن عقيل:
“كل جدل لم يكن الغرض فيه نصرة الحق فإنه وبال على صاحبه!”.
ثالثا: أن لا يقصد المباهاة, وطلب الجاه والتكسب والمماراة والرياء.
رابعا: أن ينوي النصيحة لله ولدينه ولخصمه لأن الدين النصيحة.
خامسا: أن يبتدئ بحمد الله والثناء عليه والصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم.
سادسا: أن يرغب إلى الله في التوفيق لما يرضيه.
سابعا: أن تكون طريقته في الجدل صالحة، وهيئته ومنظره صالحا، فعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الهدي الصالح، والسمت الصالح، والاقتصاد، جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة”. رواه أحمد وأبو داود, وقال ابن حجر في الفتح: إسناده حسن. وعن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفا قال: “اعلموا أن حسن الهدي، في آخر الزمان، خير من بعض العمل”. قال ابن حجر في الفتح سنده صحيح. والهدي هو الطريقة، والسمت هو المنظر والهيئة، والاقتصاد هو الاعتدال.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمد أحمد النادي