تأملات في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية”
الحلقة المائـة وسبع
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على إمام المتقين, وسيد المرسلين, المبعوث رحمة للعالمين, سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, واجعلنا معهم, واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها المسلمون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وبعد: في هذه الحلقة نواصل تأملاتنا في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية”. ومن أجل بناء الشخصية الإسلامية, مع العناية بالعقلية الإسلامية والنفسية الإسلامية, نقول وبالله التوفيق: عنوان حلقتنا لهذا اليوم هو: “أدب الحديث”. وهو ثلاثة أقسام: أدب التدريس, وأدب الخطبة, وأدب الجدل.
القسم الثالث: أدب الجدل: ومما أوصى به علماء المسلمين في قوانين الجدل وآدابه:
ثامنا: الإجمال في الخطاب بحيث يكون كلامه يسيرا جامعا بليغا، فالإكثار من الكلام يورث الملل، فوق أنه مظنة السقط والخلل والخطأ.
تاسعا: أن يتفق مع خصمه على أصل يرجعان إليه، وهو مع الكافر لا يكون إلا عقليا، أما مع المسلم فالأصل إما العقل وإما النقل، فالعقل هو المرجع في العقليات, وأما في الشرعيات فالنقل هو الأصل، لقوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول}. (النساء 59) أي إلى الكتاب والسنة.
عاشرا: الكافر لا يجادل في فروع الشريعة؛ لأنه لا يؤمن بأصلها، فلا يجادل ولا يناظر في الزواج من أربع، ولا في شهادة المرأة، ولا في الجزية، ولا في المواريث، ولا في تحريم الخمر، ولا غيرها، ويقتصر معه في التحاور على أصول الدين التي أدلتها عقلية، لأن الغرض من الجدل هو نقله من الباطل إلى الحق، ومن الضلال إلى الهدى، ولا يكون ذلك إلا بنقله من الكفر إلى الإيمان. كما لا يناظر النصراني ببطلان البوذية أو اليهودية، بل إن الكلام معه، في هذا وأشباهه، لا يعد جدلا، فالنصراني ليس بوذيا ولا يهوديا حتى تنقله منهما إلى الحق، وإنما يكون الكلام معه في عقيدته الباطلة، لنقله منها إلى الإسلام.
ولذلك لا يقال: “نتحاور فيما اتفقنا عليه، ونترك ما اختلفنا فيه”؛ لأننا مأمورون بجدالهم، والجدال لا يكون إلا فيما اختلفنا فيه، أما لو اتفق النصراني أو الرأسمالي مع المسلم على أن البوذية أو الشيوعية أو الاشتراكية مستقبحة عقلا، وتكلما حولها، فإن هذا الكلام لا يسمى تحاورا ولا جدلا، وهو لا يبرئ ذمة المسلم من وجوب محاورته وجداله حتى ينقله إلى الإسلام.
وكذلك لا يقال: “نتحاور مع الكفار فيما اتفقنا عليه، ونذر ما اختلفنا فيه إلى يوم القيامة، فيحكم الله ما يشاء عندئذ ويفصل بيننا”. لا يقال هذا بمعنى أنه يغني عن جدالهم؛ لأننا مأمورون بجدالهم فيما اختلفنا فيه، وإن لم نفعل نكن مقصرين. نعم إن الحكم لله في الدنيا والآخرة، لكن لا يجوز أن نخلط بين ما هو من فعل الله سبحانه وبين ما كلفنا به، فهذه حجة المقصر، بل شغب المقصر الذي لا دليل عنده, ولا حتى شبهة دليل.
حادي عشر: أن لا يرفع صوته إلا بالقدر الذي يلزم لإسماع من عنده، وأن لا يصيح في وجه خصمه. حكي أن رجلا من بني هاشم اسمه عبد الصمد، تكلم عند المأمون، فرفع صوته، فقال المأمون: لا ترفع صوتك يا عبد الصمد، إن الصواب في الأسد لا الأشد. ذكره الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه.
ثاني عشر: أن لا يستحقر خصمه ويستصغر شأنه. لما ولي يحيى بن أكثم قضاء البصرة استصغروا سنه، فقال له رجل: كم سن القاضي أعزه الله؟ فقال: سن عتاب بن أسيد حين ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، فجعل جوابه احتجاجا. وفي هذا الشأن قال الشاعر:
لا تحقرن صغيرا في مخاصمة إن البعوضة تدمي مقلة الأسد
ثالث عشر: أن يصبر على شغب الخصم، ويحلم عنه، ويغفر زلَلَهُ، إلا أن يكون سفيها، فيترفع عن جداله ومشاغبته.
رابع عشر: أن يتجنب الحدة والضجر. قال ابن سيرين: الحدة كنية الجهل. يعني في الجدل. ذكر الخطيب البغدادي في “الفقيه والمتفقه” قال: “حدثني هارون بن أبي يحيى، عن رجل من قريش قال: قال بعض الأنصار: “رأس الحمق الحدة، وقائده الغضب، ومن رضي بالجهل استغنى عن الحلم، الحلم زين ومنفعة، والجهل شين، والسكوت عن جواب الأحمق جوابه” والشين: العيب والنقيصة والقبح. وأما ما رواه الطبراني عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “تعتري الحدة خيار أمتي” ففيه سلام بن مسلم الطويل وهو متروك. وما رواه الطبراني عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خيار أمتي أحداؤهم الذين إذا غضبوا رجعوا” ففيه نعيم بن سالم بن قنبر وهو كذاب.
خامس عشر: إذا جادل من هو أعلم منه فلا يقول: أخطأت، أو كلامك غلط، وإنما يقول: أرأيت لو قال قائل أو اعترض معترض فقال: كذا وكذا. أو أن يعترض بصيغة المسترشد، كأن يقول: أليس الصواب أن يقال: كذا.
سادس عشر: أن يتأمل ما يأتي به الخصم ويفهمه ليتمكن من الرد، وأن لا يعجل بالكلام قبل أن ينهي خصمه كلامه. عن ابن وهب قال: سمعت مالكا يقول: لا خير في جواب قبل فهم. وليس من الأدب أن يقطع كلام خصمه. أما إذا كان الخصم مماريا لجوجا ثرثارا متشدقا، فالأصل أن لا يناظره إذا كان يعلم ذلك منه، وإذا اكتشفه أثناء المناظرة نصحه، فإن لم يرعو قطع مكالمته.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمد احمد النادي