إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي جهاز الثمن ينظم التوزيع, ويحقق التوازن بين الإنتاج والاستهلاك (ح16)
إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي
جهاز الثمن ينظم التوزيع, ويحقق التوازن بين الإنتاج والاستهلاك (ح16)
إعداد وتنسيق
الأستاذ محمد أحمد النادي
الحَمْدُ للهِ الذِي شَرَعَ لِلنَّاسِ أحكَامَ الرَّشَاد, وَحَذَّرَهُم سُبُلَ الفَسَاد, وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى خَيرِ هَاد, المَبعُوثِ رَحمَةً لِلعِبَاد, الَّذِي جَاهَدَ فِي اللهِ حَقَّ الجِهَادِ, وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الأَطهَارِ الأمجَاد, الَّذِينَ طبَّقُوا نِظَامَ الِإسلامِ فِي الحُكْمِ وَالاجتِمَاعِ وَالسِّيَاسَةِ وَالاقتِصَاد, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ يَومَ يَقُومُ الأَشْهَادُ يَومَ التَّنَاد, يَومَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العِبَادِ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا إِروَاءُ الصَّادِي مِنْ نَمِيرِ النِّظَامِ الاقتِصَادِي, وَمَعَ الحَلْقَةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ, نُتَابِعُ فِيهَا استِعرَاضَنَا مَا جَاءَ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِ النِّظَامِ الاقتِصَادِي (نِهَايَة صَفحَة 23) لِلعَالِمِ وَالمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ, وَحَدِيثُنَا عَنْ دَورِ الثَّمَنِ في الإِنتَاجِ وَالتَّوزِيعِ عِندَ الرَّأسِمَالِيِّينَ.
يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ: أمَّا كَونُ الثَّمَنِ هُوَ الذِي يُنَظِّمُ التَّوزِيعَ فَذَلِكَ أَنَّ الإِنسَانَ يَرغَبُ فِي إِشبَاعِ جَمِيعِ حَاجَاتِهِ إِشبَاعًا كُلِّيًا. وَلِذَلِكَ يَسْعَى لِلحُصُولِ عَلَى السِّلَعِ وَالخِدْمَاتِ التِي تُشبِعُ هَذِهِ الحَاجَاتِ. وَلَو تُرِكَ لِكُلِّ فَردٍ مِنْ بَنِي الإِنسَانِ حُرِّيةَ إِشبَاعِ حَاجَاتِهِ لَمَا تَوَقَّفَ عَنْ حِيَازَةِ وَاستِهلاكِ مَا شَاءَ مِنَ السِّلَعِ.
وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ كَلُّ فَردٍ مِنْ بَنِي الإِنسَانِ يَسعَى إِلَى نَفْسِ هَذَا الغَرَضِ، كَانَ لا بُدَّ مِنْ أنْ يَقِفَ الفَردُ فِي إِشبَاعِ الحَاجَاتِ عِندَ الحَدِّ الذِي يَستَطِيعُ فِيهِ مُبَادَلَةَ مَجهُودَاتِهِ بِمَجهُودَاتِ غَيرِهِ، أي عِندَ حَدِّ الجَزَاءِ النَّقدِيِّ الذِي يَحصُلُ عَلَيهِ مِنْ بَذْلِ مَجهُودَاتِهِ، أي عِندَ حَدِّ الثَّمَنِ. وَمِنْ هُنَا كَانَ الثَّمَنُ هُوَ القَيدُ الذِي يُوضَعُ طَبِيعِيًّا وَيَجعَلُ الإِنسَانُ يَتَوَقَّفُ عَنِ الحِيَازَةِ وَالاستِهلاكِ عِندَ الحَدِّ الذِي يَتَنَاسَبُ مَعَ مَوَارِدِهِ.
فَوُجُودِ الثَّمَنِ هُوَ الذِي جَعَلَ الإِنسَانَ يُفَكِّرُ وَيُوَازِنُ وَيُفَاضِلُ بَينَ حَاجَاتِهِ المُتَنَافِسَةِ التِي تَتَطَلَّبُ الإِشبَاعَ، فَيَأخُذُ مَا يَرَاهُ ضَرُورِيًّا، وَيَستَغْنِي عَمَّا يَرَاهُ أقَلَّ ضَرُورَةً. فَهُوَ الذِي يُرغِمُ الفَردَ عَلَى الاكتِفَاءِ بِإشبَاعِ بَعضِ حَاجَاتِهِ إِشبَاعًا جُزئيًا، كَي يَتَسَنَّى لَهُ إِشبَاعُ بَعضِهَا الآخَرِ، الذِي يَرَاهُ لا يَقِلُّ أهَمِّيةً عَنِ الحَاجَاتِ التِي اكتَفَى بِإشبَاعِ بَعضِهَا جُزئِيًا.
فَالثَّمَنُ هُوَ الذِي يُنَظِّمُ تَوزِيعَ الحَاجَاتِ التِي يَتَطَلَّبُهَا الفَردُ، وَكَذَلِكَ هُوَ الذِي يُنَظِّمُ تَوزِيعَ المَنَافِعِ المَحدُودَةِ عَلَى العَدَدِ الكَبِيرِ مِنَ المُستَهلِكِينَ الذِي يَطلُبُ هَذِهِ المَنَافِعِ. فَتَفَاوُتُ مَوَارِدِ المُستَهلِكِينَ يَجعَلُ استِهلاكَ كُلِّ فَردٍ قَاصِراً عَلَى مَا تَسمَحُ بِهِ مَوَارِدُهُ. وَبِذَلِكَ يُصبِحُ استِهلاكُ بَعضِ السِّلَعِ قَاصِراً عَلَى مَنْ تَسمَحَ لَهُ مَوَارِدُهُ، وَيُصبِحُ استِهلاكُ بَعضِ السِّلَعِ عَامًّا عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ الذِينَ يَملِكُونَ أَدنَى حَدٍّ مِنَ الثَّمَنِ. وَبِهَذَا يَكُونُ الثَّمَنُ بِارتِفَاعِهِ لِبَعضِ السِّلَعِ، وَانخِفَاضِهِ لِبَعضِهَا، وَتَوَفُّرِ الجَزَاءِ النَّقدِيِّ عِندَ بَعضِهِمْ، وَعَدَمِ تَوَفُّرِهِ عِندَ الآخَرِينَ يَكُونُ الثَّمَنُ بِذَلِكَ مُنَظِّمًا لِتَوزِيعِ المَنَافِعِ عَلَى المُستَهلِكِينَ.
وَأَمَّا كَونُ الثَّمَنِ يُحَقِّقُ التَّوَازُنَ بَينَ الإِنتَاجِ وَالاستِهلاكِ، أَي يَكُونُ أَدَاةَ اتِّصَالٍ بَينَ المُنتِجِ وَالمُستَهلِكِ، فَذَلِكَ أَنَّ المُنتِجَ الذِي يُحَقِّقُ رَغْبَاتِ المُستَهلِكِينَ يُكَافَأُ عَلَى ذَلِكَ بِالحُصُولِ عَلَى رِبْحٍ. وَالمُنتِجُ الذِي لا تَجِدُ مُنتَجَاتُهُ قَبُولاً لَدَى المُستَهلِكِينَ لا بُدَّ مِنْ أنْ يَنتَهِيَ بِالخَسَارَةِ. وَالطَّرِيقَةُ التِي يَستَطِيعُ المُنتِجُ أنْ يَقِفَ بِهَا عَلَى رَغْبَاتِ المُستَهلِكِينَ إِنَّمَا هِيَ الثَّمَنُ. فَعَنْ طَرِيقِ الثَّمَنِ يَعرِفُ رَغْبَاتِ المُستَهلِكِينَ، فَإِذَا زَادَ إِقبَالُ المُستَهلِكِينَ عَلَى شِرَاءِ سِلْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ ارتَفَعَ ثَمَنُهَا فِي السُّوقِ، وَبِذَلِكَ يَزدَادُ إِنتَاجُ هَذِهِ السِّلْعَةِ تَحْقِيقًا لِرَغْبَاتِ المُستَهلِكِينَ.
وَإِذَا أَعرَضَ المُستَهلِكُونَ عَنْ شِرَاءِ سِلعَةٍ مُعَيَّنَةٍ انخَفَضَ ثَمَنُهَا فِي السُّوقِ، وَبِذَلِكَ يَقِلُّ إِنتَاجُ هَذِهِ السِّلعَةِ. فَتَزِيدُ المَوَارِدُ المُخَصَّصَةُ لِلإِنتَاجِ بِزِيَادَةِ الثَّمَنِ، وَتَقِلُّ المَوَارِدُ المُخَصَّصَةُ لِلإِنتَاجِ بِقِلَّةِ الثَّمَنِ. وَبِذَلِكَ يَكُونُ الثَّمَنُ هُوَ الذِي حَقَّقَ التَّوَازُنَ بَينَ الإِنتَاجِ وَالاستِهلاكِ، وَهُوَ الذِي كَانَ أَدَاةَ الاتِّصَالِ بَينَ المُنتِجِ وَالمُستَهلِكِ. وَهَذَا يَجرِي بِطَرِيقَةٍ آلِيَّةٍ.
وَمِنْ هُنَا كَانَ الثَّمَنُ هُوَ القَاعِدَةُ التِي يَقُومُ عَلَيهَا الاقتِصَادُ فِي نَظَرِ الرَّأسْمَالِيِّينَ، وَهُوَ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ فِي الاقتِصَادِ عِندَهُمْ.
وَقَبلَ أَنْ نُوَدِّعَكُمْ مُستَمِعِينَا الكِرَامَ نُذَكِّرُكُمْ بِأَبرَزِ الأفكَارِ التِي تَنَاوَلهَا مَوضُوعُنَا لِهَذَا اليَومِ: الثَّمَنُ هُوَ الحَافِزُ عَلَى الإِنتَاجِ وَالمُنَظِّمُ لِلتَّوزِيعِ وَأَدَاةُ الاتِّصَالِ بَينَ المُنتِجِ وَالمُستَهلِكِ فَيُحَقِّقُ التَّوَازُنَ بَينَ الإِنتَاجِ وَالاستِهلاكِ, وَقَد بَيَّنا فِي الحَلْقَةِ المَاضِيَةِ المَسأَلَةَ الأُولَى وَهِيَ أنَّ الثَّمَنَ هُوَ الحَافِزُ عَلَى الإِنتَاجِ, وَإِلَيكُمُ بَيَانَ المَسأَلَتَينِ البَاقِيَتَينِ:
المسألة الثانية: الثمن هو الذي ينظم التوزيع:
- يَرغَبُ الإِنسَانُ فِي إِشبَاعِ جَمِيعِ حَاجَاتِهِ إِشبَاعًا كُلِّيًا فَيَسعَى لِلحُصُولِ عَلَى السِّلَعِ وَالخِدْمَاتِ.
- لَو تُرِكَ لِكُلِّ إِنسَانٍ حُريَّةُ إِشبَاعِ حَاجَاتِهِ لَمَا تَوَقَّفَ عَنْ حِيَازَةِ وَاستِهلاكِ مَا شَاءَ مِنَ السِّلَعِ.
- لا بُدَّ مِنْ أنْ يَقِفَ الفَردُ فِي إِشبَاعِ حَاجَاتِهِ عِندَ حَدِّ الثَّمَنِ الذِي يَحصُلُ عَلَيهِ مِنْ بَذلِ مَجهُودَاتِهِ.
- الثَّمَنُ هُوَ القَيدُ الَّذِي يَجعَلُ الإِنسَانَ يَتَوَقَّفُ عَنِ الحِيَازَةِ عِندَ الحَدِّ الَّذِي يَتَنَاسَبُ مَعَ مَوَارِدِهِ.
- الثَّمَنُ يَجعَلُ الإِنسَانَ يُفَكِّرُ وَيُوُازِنُ وَيُفَاضِلُ بَينَ حَاجَاتِهِ المُتَنَافِسَةِ التِي تَتَطَلَّبُ الإِشبَاعَ.
- الثَّمَنُ هُوَ الَّذِي يُنَظِّمُ تَوزِيعَ الحَاجَاتِ التِي يَتَطَلَّبُهَا الفَردُ.
- تَفَاوُتُ مَوَارِدِ المُستَهلِكِينَ يَجعَلُ استِهلاكَ كُلِّ فَردٍ قَاصِرًا عَلَى مَنْ تَسمَحَ لَه مَوَارِدُهُ.
- استِهلاكُ بَعضِ السِّلَعِ يَكُونُ عَامًا عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ الَّذِينَ يَملِكُونَ أدنَى حَدٍّ مِنَ الثَّمَنِ.
- الثَّمَنُ هُوَ الَّذِي يُرغِمُ الفَردَ عَلَى إِشبَاعِ بَعضِ حَاجَاتِهِ جُزئِيًا لِيَتَسَنَّى لَهُ إِشبَاعَ بَعضِهَا الآخَرِ.
- بِذَلِكَ يَكُونُ الثَّمَنُ مُنَظِّمًا لِتَوزِيعِ المَنَافِعِ عَلَى المُستَهلِكِينَ.
المسألة الثالثة: الثمن يحقق التوازن بين الإنتاج والاستهلاك:
1. الثَّمَنُ هُوَ أدَاةُ الاتِّصَالِ بَينَ المُنتِجِ وَالمُستَهلِكِ.
2. المُنتِجُ الَّذِي يُحَقِّقُ رَغْبَاتِ المُستَهلِكِينَ يُكَافَأُ عَلَى ذَلِكَ بِالحُصُولِ عَلَى الرِّبحِ.
3. المُنتِجُ الَّذِي لا تَجِدُ مُنتَجَاتُهُ قَبُولاً لَدَى المُستَهلِكِينَ لا بُدَّ مِنْ أنْ يَنتَهِيَ بِالخَسَارَةِ.
4. عَنْ طَرِيقِ الثَّمَنِ يَعرِفُ المُنتِجُ رَغْبَاتِ المُستَهلِكِينَ مِنْ خِلالِ الأمرَينِ الآتِيَينِ:
أ- إِذَا زَادَ إِقبَالُ المُستَهلِكِينَ عَلَى شِرَاءِ سِلْعَةٍ ارتَفَعَ ثَمَنُهَا, وَازدَادَ إِنتَاجُهَا تَحقِيقًا لِرَغْبَاتِهِمْ.
ب- إِذَا أعرَضَ المُستَهلِكُونَ عَنْ شِرَاءِ سِلْعَةٍ انخَفَضَ ثَمَنُهَا وَقَلَّ إِنتَاجُهَا.
5. تَزِيدُ المَوَارِدُ المُخَصَّصَةُ لِلإِنتَاجِ بِزِيَادَةِ الثَّمَنِ, وَتَقِلُّ المَوَارِدُ المُخَصَّصَةُ لِلإِنتَاجِ بِقِلَّةِ الثَّمَنِ.
6. الثَّمَنُ يُحَقِّقُ التَّوَازُنَ بَينَ الإِنتَاجِ وَالاستِهلاكِ وَهُوَ أدَاةُ الاتِّصَالِ بَينَ المُنتِجِ وَالمُستَهلِكِ.
7. الثَّمَنُ هُوَ القَاعِدَةُ التِي يَقُومُ عَلَيهَا الاقتِصَادُ الرَّأسمَالِيُّ وَهُوَ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ فِي هَذَا الاقتِصَادِ.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الَمولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ على منهاج النبوة في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.