إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي
الندرة النسبية في النظام الاقتصادي الرأسمالي (ح19)
الحَمْدُ للهِ الذِي شَرَعَ لِلنَّاسِ أحكَامَ الرَّشَاد, وَحَذَّرَهُم سُبُلَ الفَسَاد, وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى خَيرِ هَاد, المَبعُوثِ رَحمَةً لِلعِبَاد, الَّذِي جَاهَدَ فِي اللهِ حَقَّ الجِهَادِ, وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الأَطهَارِ الأمجَاد, الَّذِينَ طبَّقُوا نِظَامَ الِإسلامِ فِي الحُكْمِ وَالاجتِمَاعِ وَالسِّيَاسَةِ وَالاقتِصَاد, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ يَومَ يَقُومُ الأَشْهَادُ يَومَ التَّنَاد, يَومَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العِبَادِ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا إِروَاءُ الصَّادِي مِنْ نَمِيرِ النِّظَامِ الاقتِصَادِي, وَمَعَ الحَلْقَةِ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ, نُتَابِعُ فِيهَا استِعرَاضَنَا مَا جَاءَ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِ النِّظَامِ الاقتِصَادِي (صَفحَة 30) لِلعَالِمِ وَالمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ, وَحَدِيثُنَا عَنْ النُّدرَةِ النِّسبِيَّةِ فِي النِّظَامِ الاقتِصَادِيِّ الرَّأسِمَالِيِّ.
الندرة النسبية للسلع والخدمات ليست هي المشكلة, وإنما المشكلة في التوزيع:
يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ: أمَّا كَونُ النُّدرَةِ النِّسبِيَّةِ لِلسِّلَعِ وَالخِدْمَاتِ هِيَ المُشكِلَةُ الاقتِصَادِيَّةُ التِي تُوَاجِهُ المُجتَمَعَ، وَالادِّعَاءُ أَنَّ كَثرَةَ الحَاجَاتِ وَقِلَّةَ إِشبَاعِهَا، أي عَدَمُ كِفَايَةِ السِّلَعِ وَالخِدْمَاتِ لإِشبَاعِ جَمِيعِ حَاجَاتِ الإِنسَانِ إِشبَاعًا كُلِّيًا هُوَ أَسَاسُ المُشكِلَةِ الاقتِصَادِيَّةِ، فَذَلِكَ خَطَأٌ يُخَالِفُ الوَاقِعَ. وَذَلِكَ أنَّ الحَاجَاتِ التِي تَكُونُ مُعَالَجَتُهَا حَتْمِيَّةً هِيَ الحَاجَاتُ الأَسَاسِيَّةُ لَدَى الفَردِ بِوَصْفِهِ إِنسَاناً، لا الحَاجَاتِ الثَّانَوِيَّةَ أوِ الكَمَالِيَّةَ، وَإِنْ كَانَتِ الحَاجَةُ الكَمَالِيَّةُ يُسعَى وَيُعمَلُ لإِشبَاعِهَا.
وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الحَاجَاتِ الأَسَاسِيَّةَ مَحدُودة، وَالأَموَالَ وَالجُهُودَ التِي يُسَمُّونَهَا السِّلَعَ وَالخِدْمَاتِ المَوجُودَةَ فِي العَالَمِ كَافِيَةٌ لإِشبَاعِ الحَاجَاتِ الأَسَاسِيَّةِ، وَيُمكِنُ إِشبَاعُ جَمِيعِ الحَاجَاتِ الأَسَاسِيَّةِ إِشبَاعًا كُلِّيًا لِلأَفرَادِ المُستَهلِكِينَ، فَلا تُوجَدُ مُشكِلَةٌ فِي الحَاجَاتِ الأَسَاسِيَّةِ فَضْلاً عَنْ جَعلِهَا المُشكِلَةَ الاقتِصَادِيَّةَ التِي تُوَاجِهُ المُجتَمَعَ. وَإِنَّما المُشكِلَةُ الاقتِصَادِيَّةُ هِيَ تَوزِيعُ هَذِهِ الأَموَالِ وَالجُهُودِ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنَ الأَفرَادِ، لإِشبَاعِ جَمِيعِ حَاجَاتِهِمُ الأَسَاسِيَّةِ إِشبَاعًا كُلِّيًا، وَمُسَاعَدَتِهِمْ عَلَى السَّعْيِ لإِشبَاعِ حَاجَاتِهِمُ الكَمَالِيَّةِ.
حاجات الإنسان المتجددة هي الحاجات الكمالية وليست الأساسية:
أمَّا مُشكِلَةُ زِيَادَةِ الحَاجَاتِ المُتَجَدِّدَةِ، فَإِنَّهَا لا تَتَعَلَّقُ بِزِيَادَةِ الحَاجَاتِ الأَسَاسِيَّةِ، لأَنَّ الحَاجَاتِ الأَسَاسِيَّةَ لِلإِنسَانِ مِنْ حَيثُ هُوَ إِنسَانٌ لا تَزِيدُ، وَإِنَّمَا الذِي يَزِيدُ وَيَتَجَدَّدُ هُو حَاجَاتُهُ الكَمَالِيَّةُ. فَالزِّيَادَةُ فِي الحَاجَاتِ التِي تَحْصُلُ مَعَ تَقَدُّمِ الإِنسَانِ فِي حَيَاتِهِ المَدَنِيَّةِ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالحَاجَاتِ الكَمَالِيَّةِ، لا الحَاجَاتِ الأَسَاسِيَّةِ، وَهَذِهِ يُعمَلُ لإِشبَاعِهَا، وَلَكِنَّ عَدَمَ إِشبَاعِهَا لا يُسَبِّبُ مُشكِلَةً، بَلِ الذِي يُسَبِّبُ مُشكِلَةً إِنَّمَا هُوَ عَدَمُ إِشبَاعِ الحَاجَاتِ الأَسَاسِيَّةِ.
مسألة زيادة الحاجات الكمالية غير مشكلة إشباع الحاجات الأساسية لكل فرد إشباعا كليا:
عَلَى أَنَّ مَسألَةَ زِيَادَةِ الحَاجَاتِ الكَمَالِيَّةِ مَسأَلَةٌ أٌخرَى تَتَعَلَّقُ بِالمَجمُوعِ الذِي يَعِيشُ فِي قُطرٍ مُعَيَّنٍ، لا بِكُلِّ فَردٍ مِنْ أَفرَادِ هَذَا القُطْرِ. وَهَذِهِ المَسألَةُ يَحُلُّهَا اندِفَاعُ الإِنسَانِ الطَّبِيعِيُّ لإِشبَاعِ حَاجَاتِهِ، فَيدفَعُهُ هَذَا الاندِفَاعُ النَّاتِجُ عَنْ زِيَادَةِ الحَاجَاتِ الكَمَالِيَّةِ إِلَى العَمَلِ لِزِيَادَةِ وَسَائِلِ الإِشبَاعِ، إِمَّا بِزِيَادَةِ استِغلالِ مَوَارِدِ بِلادِهِ، أو بِالعَمَلِ فِي بِلادٍ أُخرَى، أو بِالتَّوَسُّعِ وَالاندِمَاجِ فِي بِلادٍ أُخرَى.
وَهَذِهِ المَسألَةُ غَيرُ مُشكِلَةِ إِشبَاعِ الحَاجَاتِ الأَسَاسِيَّةِ لِكُلِّ فَردٍ مِنْ أَفرَادِ المُجتَمَعِ إِشبَاعًا كُلِّيًا. لأَنَّ مُشكِلَةَ تَوزِيعِ الثَّروَةِ عَلَى الأَفرَادِ فَردًا فَردًا لإِشبَاعِ جَمِيعِ حَاجَاتِهِمُ الأَسَاسِيَّةِ إِشبَاعًا كُلِّيًا، وَمُسَاعَدَةِ كُلِّ فَردٍ عَلَى إِشبَاعِ حَاجَاتِهِ الكَمَالِيَّةِ، هَذِهِ المُشكِلَةُ تَتَعَلَّقُ بِوُجهَةِ النَّظَرِ فِي الحَيَاةِ، وَهِيَ خَاصَّةٌ بِأُمَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَو مَبدَأ مُعَيَّنٍ، بِخِلافِ مَسألَةِ زِيَادَةِ الدَّخْلِ الأَهلِيِّ بِزِيَادَةِ الإِنتَاجِ. فَإِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالوَاقِعِ المَحسُوسِ لِلبِلادِ، مِنْ حَيثُ مَعرِفَةِ زِيَادَةِ الثَّروَةِ، بِالاستِغلالِ أوِ الهِجْرَةِ أوِ التَّوَسُّعِ أو الاندِمَاجِ. وَهِيَ مُنطَبِقَةٌ عَلَى الوَاقِعِ وَيَقُومُ بِهَا كُلُّ إِنسَانٍ، وَهِيَ عَامَّةٌ لا تَتَعَلَّقُ بِوُجهَةِ نَظَرٍ مُعَيَّنَةٍ، وَلا تَخُصُّ أُمَّةً مُعَيَّنَةٍ، وَلا مَبدَأً مُعَيَّنًا.
زيادة الإنتاج لا تؤدي إلى إشباع جميع الحاجات الأساسية لجميع الأفراد إشباعا كليًا:
وَعَلَى هَذا فَالقَواعِدُ الاقتِصَادِيَّةُ التِي تُوضَعُ هِيَ القَوَاعِدُ التِي تَضمَنُ تَوزِيعَ ثَروَةِ البِلادِ الدَّاخِلِيَّةِ وَالخَارِجِيَّةِ عَلَى جَمِيعِ أفرَادِ الأُمَّةِ فَردًا فَردًا، بِحَيثُ يُضمَنُ إِشبَاعُ جَمِيعِ الحَاجَاتِ الأَسَاسِيَّةِ، لِجَمِيعِ الأَفرَادِ فَردًا فَردًا، إِشبَاعًا كُلِّيًا، وَتَمكِينِ كُلِّ فَردٍ مِنهُمْ مِنْ إِشبَاعِ حَاجَاتِهِ الكَمَالِيَّةِ. وَأمَّا رَفْعُ مُستَوَى الإِنتَاجِ فَيَحتَاجُ إِلَى أبحَاثٍ عِلْمِيَّةٍ، وَبَحثُهُ فِي النِّظَامِ الاقتِصَادِيِّ لا يُعَالِجُ المُشكِلَةَ الاقتِصَادِيَّةَ، وَهِيَ إِشبَاعُ جَمِيعِ حَاجَاتِ الأَفرَادِ فَردًا فَردًا إِشبَاعًا كُلِّيًا؛ لأَنَّ زِيَادَةَ الإِنتَاجِ تُؤَدِّي إِلَى رَفْعِ مُستَوَى ثَروَةِ البِلادِ، وَلا تُؤَدِّي إِلَى إِشبَاعِ جَمِيعِ الحَاجَاتِ الأَسَاسِيَّةِ لِجَمِيعِ الأَفرَادِ إِشبَاعًا كُلِّيًا. وَقَد تَكُونُ البِلادُ غَنِيَّةً بِإِنتَاجِهَا كَالعِرَاقِ وَالسعُودِيَّةِ مَثلاً، وَلَكِنَّ الحَاجَاتِ الأَسَاسِيَّةَ لأَكثَرِ أَفرَادِ الشَّعبِ هُنَاكَ لَيسَتْ مُشبَعَةً إِشبَاعًا كُلِّيًا. وَلِذَلِكَ كَانَتْ زِيَادَةُ الإِنتَاجِ لا تُعَالِجُ المُشكِلَةَ الأَسَاسِيَّةَ، التِي يَجِبُ عِلاجُهَا فَورًا وَقَبلَ كُلِّ شَيءٍ، وَهِيَ إِشبَاعُ جَمِيعِ الحَاجَاتِ الأَسَاسِيَّةِ، لِجَمِيعِ الأَفرَادِ فَردًا فَردًا، إِشبَاعًا كُلِّيًا، ثُمَّ مُسَاعَدَتُهُمْ عَلَى إِشبَاعِ حَاجَاتِهِمُ الكَمَالِيَّةِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الفَقْرَ وَالحِرْمَانَ المَطلُوبَ عِلاجُهُ هُوَ عَدَمُ إِشبَاعِ الحَاجَاتِ الأَسَاسِيَّةِ لِلإِنسَانِ بِوَصْفِهِ إِنسَاناً، لا الحَاجَاتِ المُتَجَدِّدَةِ بِحَسَبِ الرُّقِيِّ المَدَنِيِّ. وَالمَطلُوبُ عِلاجُهُ هُوَ الفَقْرُ وَالحِرمَانُ لِكُلِّ فَردٍ مِنْ أفرَادِ المُجتَمَعِ فَردًا فَردًا، لا فَقْرُ البِلادِ وَحِرْمَانُهَا. وَهَذَا الفَقْرُ وَالحِرْمَانُ بِهَذَا المَفهُومِ لِكُلِّ فَردٍ لا يُعَالَجُ بِزِيَادَةِ الإِنتَاجِ، وَإِنَّمَا يُعَالَجُ بِكَيفِيَّةِ تَوزِيعِ الثَّروَةِ عَلَى جَمِيعِ الأَفرَادِ فَردًا فَردًا، بِحَيثُ يُشبِعُ كُلُّ فَردٍ جَمِيعَ حَاجَاتِهِ الأَسَاسِيَّةِ إِشبَاعًا كُلِّيًا، وَيُسَاعَدُ عَلَى إِشبَاعِ حَاجَاتِهِ الكَمَالِيَّةِ.
وَلِتَأكِيدِ خَطَأ الرَّأسمَالِيِّينَ القَائِلِينَ بِالنُّدرَةِ النِّسبِيَّةِ لِلسِّلَعِ وَالخِدْمَاتِ نَنقُلُ لَكُمْ مَا قَالَهُ “جُورجْ بِرْنَارد شُو” فِي هَذَا الشَّأنِ, وَعِبَارَتُهُ وَاضِحَةٌ تَمَامَ الوُضُوحِ لا تَحتَاجُ إِلَى مَزِيدٍ مِنَ التَّوضِيحِ. قَالَ: “لِحيَتِي كَثِيفَةٌ, وَرَأسِي أَصلَعٌ, كَالاقتِصَادِ العَالَمِيِّ: غَزَارَةٌ فِي الإنتَاجِ, وَسُوءٌ فِي التَّوزِيعِ!!”.
وَقَبلَ أَنْ نُوَدِّعَكُمْ أحبتنا الكِرَامَ نُذَكِّرُكُمْ بِأَبرَزِ الأفكَارِ التِي تَنَاوَلهَا مَوضُوعُنَا لِهَذَا اليَومِ:
- النُّدرَةُ النِّسبِيَّةُ لِلسِّلَعِ وَالخِدْمَاتِ لَيسَتْ هِيَ المُشكِلَةَ, وَإِنَّمَا المُشكِلَةُ فِي التَّوزِيعِ.
- حَاجَاتُ الإِنسَانِ المُتَجَدِّدَة هِيَ الحَاجَاتُ الكَمَالِيَّةُ وَلَيسَتِ الأَسَاسِيَّةَ.
- مَسأَلَةُ زِيَادَةِ الحَاجَاتِ الكَمَالِيَّةِ غَيرُ مُشكِلَةِ إِشبَاعِ الحَاجَاتِ الأَسَاسِيَّةِ لِكُلِّ فَردٍ إِشبَاعًا كُلِّيًا.
- زِيَادَةُ الإِنتَاجِ لا تُؤَدِّي إِلَى إِشبَاعِ جَمِيعِ الحَاجَاتِ الأَسَاسِيَّةِ لِجَمِيعِ الأَفرَادِ إِشبَاعًا كُلِّيًا.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الَمولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ على منهاج النبوة في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.