وقفات مع القرآن الكريم أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ
قال الله سبحانه وتعالى في سورة النساء: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً }، وقال سبحانه في سورة محمد: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }، وقال سبحانه في سورة ص: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ }.
ما يشدّ انتباه القارئ في هذه الآيات، استعماله سبحانه وتعالى لكلمة “التدبّر” حين الكلام عن القرآن الكريم. وإذا أمعن القارئ النظر في القرآن وتدبّر فيه كما طلب منه، يلحظ دعوته سبحانه وتعالى إلى التفكّر في أمور كثيرة، منها السماوات والأرض، والليل والنّهار، والجبال والأنهار وغير ذلك، إلا أنّ هذه الدعوة إلى التفكّر في مخلوقاته وبدائع صنعه سبحانه، عادة ما تقترن باستعمال كلمة تفيد معنى التدبّر كالتفكّر والتّعقل والتّذكر، ولكن دون استعمال كلمة “التدبّر” ذاتها التي خصّ بها القرآن الكريم.
ومثال ذلك:
قال الله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }.
وقال سبحانه في سورة الرعد: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ * وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }.
وقال سبحانه في سورة النحل: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ * هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }.
وإذا دقّق الإنسان النظر في معاني هذه الكلمات أدرك الحكمة في استعمال بعضها في مواضع وعدم استعمال بعضها الآخر. ذلك أنّ كلمة التدبّر مأخوذة من الدبر، وهو – كما في المصباح المنير للفيومي – “خلاف القبل من كل شيء ومنه يقال لآخر الأمر (دبر)، وأصله ما أدبر عنه الإنسان، ومنه (دبّر) الرجل عبده (تدبيرا) إذا أعتقه بعد موته…و(دبر) النهار (دبورا) من باب قعد إذا انصرم…و(تدبّرته) (تدبّرا) [أي الأمر] نظرت في دبره وهو عاقبته وآخرته”.
فكلمة التدبّر لا تفيد مطلق التفكير والتعقّل، إنما تفيد التفكّر في الأمر بالنظر فيه من أوّله إلى آخره، أي تشير إلى نوع مخصوص من التفكّر. ولما كان القصد من الدعوة إلى النظر في القرآن الكريم إثبات كونه معجزة، ناسب هذا السياق استعمال كلمة “التدبّر”؛ لأنّ الوقوف على كون القرآن معجزة يقتضي من الإنسان أن يقرأه كلّه، لا بعضه أو جلّه. فإذا قرأ الإنسان بعض القرآن أو جلّه، بقي في نفسه بعض الشكّ في إعجازه؛ لأنّه وقف على الإعجاز في بعضه ولم يقف عليه في بعضه الآخر. لذلك كانت الدعوة إلى قراءة القرآن كلّه من أجل الوقوف على إعجازه كلّه.
وأمّا السماوات، والأرض، والأنهار، والجبال وغير ذلك من المخلوقات التي بثّت في أرجاء هذا الكون الفسيح، فليس بمقدور الإنسان أن ينظر فيها كلّها، وليس بمستطاعه أن يتدبّر فيها بأكملها، لذلك ناسب هنا استعمال كلمات التّفكر، والتعقّل، والتذّكر؛ لأنّ النظر في عنصر واحد من عناصر الكون يدلّ بمفرده على وجود الخالق المدبّر، وهو الله سبحانه وتعالى. والله أعلم.
الكاتب: ياسين بن علي