وقفة مع آية مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ الحلقة الخامسة
حياكم الله ، ومع هذه الحلقة الجديدة من السلسلةِ المُتجددة والتي بعنوان ” وقفة مع آية “، وأما وقفتُنا لهذا اليوم فهي مع آيةٍ كريمةٍ تُدِمعُ العيون وتوقظُ في القلبِ شوقاً لله ورجاءً في رحمتِهِ ورضوانِه ،، كيف لا ؟! والله تعالى يقول :-
( مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً (147)) النساء .
يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : (مَا يَفْعَل اللَّه بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ) مَا يَصْنَعُ اللَّه أَيّهَا الْمُنَافِقُونَ بِعَذَابِكُمْ , إِنْ أَنْتُمْ تُبْتُمْ إِلَى اللَّه وَرَجَعْتُمْ إِلَى الْحَقّ الْوَاجِب لِلَّهِ عَلَيْكُمْ , فَشَكَرْتُمُوهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ مِنْ نِعَمه فِي أَنْفُسكُمْ وَأَهَالِيكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ , بِالْإِنَابَةِ إِلَى تَوْحِيده وَالِاعْتِصَام بِهِ , وَإِخْلَاصكُمْ أَعْمَالكُمْ لِوَجْهِهِ , وَتَرْكُ رِيَاءَ النَّاسِ بِهَا , وَآمَنْتُمْ بِرَسُولِهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَدَّقْتُمُوهُ وَأَقْرَرْتُمْ بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنْ عِنْده فَعَمِلْتُمْ بِهِ . يَقُول : لَا حَاجَة بِاَللَّهِ أَنْ يَجْعَلكُمْ فِي الدَّرْك الْأَسْفَل مِنْ النَّار إِنْ أَنْتُمْ أَنَبْتُمْ إِلَى طَاعَته وَرَاجَعْتُمْ الْعَمَل بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَتَرْكُ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ لَا يَجْتَلِبُ بِعَذَابِكُمْ إِلَى نَفْسِه نَفْعًا وَلَا يَدْفَعُ عَنْهَا ضُرًّا , وَإِنَّمَا عُقُوبَته مَنْ عَاقَبَ مِنْ خَلْقه جَزَاءٌ مِنْهُ لَهُ عَلَى جَرَاءَته عَلَيْهِ وَعَلَى خِلَافه أَمْره وَنَهْيه ، وَكُفْرَانه شُكْر نِعَمه عَلَيْهِ . فَإِنْ أَنْتُمْ شَكَرْتُمْ لَهُ عَلَى نِعَمه وَأَطَعْتُمُوهُ فِي أَمْرِه وَنَهْيه, فَلَا حَاجَة بِهِ إِلَى تَعْذِيبكُمْ, بَلْ يَشْكُر لَكُمْ مَا يَكُونُ مِنْكُمْ مِنْ طَاعَةٍ لَهُ وَشُكْر, بِمُجَازَاتِكُمْ عَلَى ذَلِكَ بِمَا تَقْصُر عَنْهُ أَمَانِيّكُمْ فَلَمْ تَبْلُغهُ آمَالكُمْ.
فَنَبَّهَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ الشَّاكِر الْمُؤْمِن, وَأَنَّ تَعْذِيبه عِبَاده لَا يَزِيدُ فِي مُلْكه, وَتَرْكَهُ عُقُوبَتَهُمْ عَلَى فِعْلهمْ لَا يَنْقُص مِنْ سُلْطَانه. وَقَالَ مَكْحُول : أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كُنَّ لَهُ , وَثَلَاثٌ مِنْ كُنَّ فِيهِ كُنَّ عَلَيْهِ ; فَالْأَرْبَع اللَّاتِي لَهُ : فَالشُّكْرُ وَالْإِيمَان وَالدُّعَاء وَالِاسْتِغْفَار , قَالَ اللَّه تَعَالَى : (مَا يَفْعَل اللَّه بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ) وَقَالَ تَعَالَى : (وَمَا كَانَ اللَّه لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّه مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) )الْأَنْفَال.
وَأَمَّا الثَّلَاثُ اللَّاتِي عَلَيْهِ : فَالْمَكْرُ وَالْبَغْي وَالنَّكْث ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : ( فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُث عَلَى نَفْسه (10)) الْفَتْح ، وَقَالَ تَعَالَى : (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ (43)) فَاطِر ، وَقَالَ : (إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ (23)) يونس.
(وَكَانَ اللَّه شَاكِرًا ) لَكُمْ وَلِعِبَادِهِ عَلَى طَاعَتِهمْ إِيَّاهُ بِإِجْزَالِهِ لَهُمْ الثَّوَاب عَلَيْهَا , وَإِعْظَامه لَهُمْ الْعِوَض مِنْهَا ، وَمَعْنَى ” يَشْكُرهُمْ ” يُثِيبُهُمْ ; فَيَتَقَبَّلُ الْعَمَل الْقَلِيل وَيُعْطِي عَلَيْهِ الثَّوَاب الْجَزِيل , وَذَلِكَ شُكْرٌ مِنْهُ عَلَى عِبَادَته ، (عَلِيمًا ) بِمَا تَعْمَلُونَ أَيّهَا الْمُنَافِقُونَ وَغَيْركُمْ مِنْ خَيْر وَشَرّ وَصَالِح وَطَالِح , مُحْصٍ ذَلِكَ كُلّه عَلَيْكُمْ مُحِيطٌ بِجَمِيعِهِ , حَتَّى يُجَازِيَكُمْ جَزَاءَكُمْ يَوْم الْقِيَامَة , الْمُحْسِن بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيء بِإِسَاءَتِهِ . حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة :(مَا يَفْعَل اللَّه بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّه شَاكِرًا عَلِيمًا ) قَالَ : إِنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَا يُعَذِّب شَاكِرًا وَلَا مُؤْمِنًا.
وأخيراً تجيءُ تلك اللمسةُ العجيبة , الموحيةُ المؤثرةُ العميقة . . أخيراً بعد ذكرِ العقابِ المُفزعِ والأجرِ العظيم ، لتشعر قلوبُ البشرِ أن الله في غنىً عن عذابِ العباد . فما به – سبحانه – من نقمةٍ ذاتيةٍ عليهم يصبُ عليهِم من أجلِها العذاب . وما بهِ – سبحانه – من حاجةٍ لإظهارِ سلطانَه وقوته عن هذا الطريق . وما بهِ – سبحانه – من رغبةٍ ذاتيةٍ في عذابِ الناس ، كما تحفلُ أساطيرَ الوثنيةِ كلها بمثلِ هذه التصورات ،وإنما هو صلاحُ العباد بالإيمانِ والشكرِ لله ،مع تحبيبِهم في الإيمانِ والشكرِ لله ، وهو الذي يشكرُ صالحَ العمل ويعلمُ خبايا النفوس .
( مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً ) ؟!
نعم ! ما يفعلُ اللهُ بعذابِكم إن شكرتم وآمنتم ? إن عذابَهُ لجزاءٌ على الجحودِ والكفران ; وتهديدٌ لعلَّه يقودُ إلى الشكرِ والإيمان. . إنها ليست شهوةُ التعذيب , ولا رغبةُ التنكيل ، ولا التذاذُ الآلام , ولا إظهارُ البطشَ والسُلطان . . تعالى الله عن ذلك كلِّه علواً كبيرا ،، فمتى اتقيتم بالشكرِ والإيمانِ فهنالك الغفرانُ والرضوان ،وهناك شكرُ اللهِ سبحانه لعبدهِ وعلمه سبحانه بعبدِه .
وشكرُ الله للعبد , يلمسُ القلبَ لمسةً رفيقةً عميقة . إنه معلومٌ أن الشكرَ من اللهِ تعالى معناهُ الرضى , ومعناهُ ما يلازمُ الرضى من الثواب ، ولكن التعبيرَ بأنَّ الله شاكر، تعبيرٌ عميقُ الإيحاء!
وإذا كان الخالقُ المُنشئ, المُنعمُ المُتفضل, الغنيُ عن العالمين يشكرُ لعبادهِ صلاحَهم وإيمانَهم وشكرَهم وامتنانَهم، وهو غنيٌ عنهِم وعن إيمانِهم وعن شكرِهم وامتنانِهم !! إذا كان الخالقُ المنشئ, المُنعمُ المُتفضل, الغنيُ عن العالمين يشكر. . فماذا ينبغي للعبادِ المخلوقين المحدثين ; المغمورينَ بنعمةِ الله، تجاه الخالق الرازق المُنعم المُتفضل الكريم ?!
ألا إنها اللمسةُ الرفيقةُ العميقةُ التي ينتفضُ لها القلبُ ويخجلُ ويستجيب !
ألا إنها الإشارةُ المنيرةُ إلى معالمِ الطريق، الطريقُ إلى اللهِ الواهبُ المُنعم, الشاكرُ العليم !”
في ظلال القرآن .
الإخوة والأخوات الكرام :-
حدثنا أنس بن مالك عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قَالَ : ((بَيْنَا أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا آخرة الرَّحْلِ فَقَالَ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ يَا مُعَاذُ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ يَا مُعَاذُ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ قَالَ هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ فَقَالَ هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوهُ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ )) .
إن الله عزّ وجل قد كرّم بني آدم وأحسن خلقَهم، وحدد لبني البشر الغاية من وجودِهم، فهم لم يُخلقوا عبثا بل خُلقوا لغايةٍ عظيمةٍ في هذه الحياة، ولقد عرّف اللهُ تعالى الإنسانَ هذه الغاية ألا وهي عبادته والإيمانُ به إيماناً جازماً ، ولقد كرّم اللهُ تعالى الإنسان وأنعمَ عليه بنِعمٍ لا تُعدُّ ولا تُحصى فكان حقاً عليه شُكرَها ! أفلا يكونُ عبداً شكورا ؟؟ فإن شكروا وآمنوا ما يفعلُ الله بعذابهِم؟؟!!
ما أروعهُ وما أرقهُ من خِطاب !! وما أعظم رحمة اللهِ ومغفرتهِ !!
فالمُسلمُ الذي يعبدُ الله تعالى ولم يشرك به شيئا واستقامَ على أمرهِ وشكرَ نعمَه كان حقاً على الله أن لا يُعذبه، وقد قرنَ سبحانه وتعالى الشكرَ بالإيمانِ به ، وجعلَ في الشكرِ رضاه ، قال تعالى (وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُم (7) ) الزمر .
ما يفعلُ اللهُ بعذابِكم إن شكرتم وآمنتم ?!
والناسُ في غمراتهم ساهون لاهون وفي طغيانهم يعمهون !!
ما يفعلُ اللهُ بعذابِكم إن شكرتم وآمنتم ?!
والناسُ عن حكمِ الله مُبتعدون وعن العملِ لإعادتهِ قاعدون !!
ما يفعلُ اللهُ بعذابِكم إن شكرتم وآمنتم ?!
والناسُ يتسارعون للعذابِ بذنوبِهم ومعاصيهم وإصرارِهم عليها واللهُ يريدُ لهم الرحمة والمغفرة والنجاة من العذاب والفوزَ بالجنان فاللهم قنا عذابكِ يومَ تبعثُ عبادك .
فالعمل العمل والفرار الفرار إلى الله ، ولنعبدَ الله حقّ عبادته ولنؤمنَ بهِ كما أمرَنا ولنشكره على آلائِه العظيمةِ آناء الليلِ وأطراف النهار على الوجهِ الذي يرضاه فإنَّ في ذلك جناتُ النعيم وهذا هو الفوزُ العظيم .
اللهم ارحمنا فإنك بنا راحِم ولا تُعذبنا فإنّك علينا قادر
اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحسنِ عبادتك
ربنا ولا تُزغ قلوبَنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدُنك رحمة إنّك أنت الوهاب اللهم آمين
وصلِّ اللهم على سيدِنا مُحمدٍ وعلى آلهِ وأصحابهِ وأزواجهِ وأتباعهِ بإحسانٍ إلى يومِ الدين
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .
أم القعقاع