العلماء بمواقفهم لا بعلمهم
اختتمت أمس أعمال اجتماع الحوار بين الأديان والثقافات والحضارات الذي عُقد في الأمم المتحدة بمبادرة من عبد الله بن عبد العزيز. وإن من أبرز ما جاء في وسائل الإعلام تحول المؤتمر إلى ما يشبه لقاءً تطبيعيا، حيث أثنى الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز على عبد الله بن عبد العزيز قائلا: “صاحب الجلالة، ملك المملكة العربية السعودية، لقد استمعت لرسالتك، وآمل أن يُصبح صوتك هو السائد في المنطقة كلِها بين كل الشعوب، فهو على صواب، وهناك حاجة إليه وهو واعد”. وفي تصريحاته للصحفيين بعد إلقائه الكلمة، قال الرئيس الإسرائيلي: “إنها المرة الأولى التي يواصل فيها ملك سعودي الجلوس والاستماع لكلمةِ زعيمِِ إسرائيلي”. وقد شكر بوش عبد الله بن عبد العزيز على مبادرته لعقد هذا المؤتمر، واعتبر بوش أن السبيل الأفضل لصون الحريات الدينية هو السعي لإقامة حكم ديمقراطي. وقد جاء في خطاب عبد الله بن عبد العزيز “نقول اليوم بصوت واحد إن الأديان التي أراد بها الله عز وجل إسعاد البشر لا ينبغي أن تكون من أسباب شقائهم”. وقال عبد الله الثاني إنه من المستحيل الحديث عن الوئام بين الأديان من دون حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ودعا إلى “إنهاء هذا الصراع الذي يزرع بذور الفُرقة والانقسام من خلال إيجاد سلام مبني على قيمنا العميقة المشتركة التي تشمل قيم العدالة واحترام القانون الدولي وحق الشعوب في العيش بكرامة”.
هذا ما يريده حكام الذل والعار في مؤتمرهم هذا: اعلان نهاية الحروب الدينية وصراع الحضارات، التطبيع، مساوات الإسلام مع الأديان المحرفة، إحترام القانون الدولي، وحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على الأساس الغربي. وصدق الله تعالى حيث قال: محمد والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم.
ولكن أين العلماء؟ إين ورثة الأنبياء؟ الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا، ولكن ورثوا هذا العلم الشرعي. إن مقاطعة بعض العلماء لهذا المؤتمر الذي هو في أساسه لقاءٌ سياسي أكثر من أن يكون لقاءً لحوار أديان لا يكفي. فما الذي يميز هؤلاء العلماء المقاطعين للؤتمر عن عامة المسلمين الذين هم أيضا قاطعوا المؤتمر ولم يحضروه؟ إن عظماء علماء المسلمين بالأمس لم يشتهروا ويُعرفوا إلى يومنا هذا لغزارة علمهم وسعة فقههم، فالعلماء والفقهاء في زمنهم كانوا كثر. ولكن عظماء علماء المسلمين بالأمس اشتُهروا وعُرفوا إلى يومنا هذا بمواقفهم وتصديهم للقضايا المصيرية التي واجهتهم في زمانهم.
فأحمد بن حنبل تصدى لمسألة خلق القران. وعبد الله بن عباس تصدى للخوارج. و سعيد بن جبير تصدى للحجاج. والعز بن عبدالسلام باع الماليك. وإبن تيمية قاتل التتار. وسفيان الثوري لم يمَس كتاب هارون الرشيد بيده لأنه أتى من ظالم، بل أمر أحد أصحابِه أن يقْلِبَ الكتاب ويكتبَ على ظهره: إلى هارون- وليس أمير المؤمنين- ثم يقول ما خلاصتُه: إنك أقررت على نفسك أنك تتصرف بأموال المسلمين على هواك، فأنت ظالم، وسأشهد عليك. وأبو حنيفة لم يكن راض عن سياسة المنصور بشكل عام. وقد قالت له أمه يوما وهو بالسجن: يا نعمان، إن علما أفادك غير الضرب والحبس لحقيق بك أن تنفر عنه. فأجابها: يا أمه، لو أردت الدنيا لوصلت إليها، ولكني أردت أن يعلم اللهُ تعالى أني صنت العلم ولم أعرّض نفسي فيه للهلكة.
هذه من مواقف عظماء علماء المسلمين بالأمس، فأين عظماء علماء المسلمين اليوم؟ أين أنتم من قضايا الأمة المعاصرة؟ أين أنتم من قول الغزالي: فساد الرعايا بفساد الملوك، وفساد الملوك بفساد العلماء. أين أنتم من قوله تعالى { لتبينُنّه للناس ولا تكتمونَه } . لماذا ترضَوْن بأن تكونوا مطية وأعوانا وأدواتَ إستنجاء لهؤلاء الحكام الخون؟ ما فائدةُ وجودِكم وما فائدة علمِكم إن لم تنصروا الحق، وتمنعوا الباطل، وتأمورا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر، وتحاسبوا الحكام! يا معشر القراء يا ملح البلد، ما يُصلح الملح إذا الملح فسد! فأروا الله فيكم خيرا، فيُكتب لكم الرضا من الرحمن في الدنيا والآخرة، وتترحم عليكم الأمة الإسلامية وتذكر مواقفكم البطولية إلى يوم أن يرث الله الأرض ومن عليها.