دولة الخلافة ليست دولة مدنية ولا دولة دينية بل دولة إسلامية
يسود في هذه الأيام سجال بين التيارات الفكرية المختلفة وعلى رأسها الإسلامية، حول ما هي طبيعة الدولة التي يجب ان تحكم المجتمعات الإسلامية، هل هي دولة مدنية أو دولة دينية، ولأن المسألة أصبحت محسومة عند كثير من التيارات وخاصة الإسلامية، كان لابد من توضيح ماهية هذه المصطلحات، وتوضيح واقع الدولة الإسلامية، هل هي دينية أم مدنية؟ وحتى لا نطيل في بحث هذا الموضوع سوف أركز على أهم النقاط.
أولا: هذه المصطلحات واعني هنا مصطلح الدولة الدينية والدولة المدنية، لا تعنينا نحن المسلمين، لأنها مصطلحات غربية تخص غير المسلمين، فالدولة الدينية هي الدولة الكهنوتية أو الثيوقراطية، والتي كانت موجودة في اوروبا في العصور الوسطى عصور الظلام بالنسبة للغرب، وكان يحكمها الباباوات باسم الحق الإلهي او التفويض الإلهي، اذ كان هؤلاء الباباوات يعتبرون أنفسهم متصلين مباشرة مع الإله دون واسطة، لذلك انتشر الجهل والفقر والظلم والحرمان في المجتمعات التي حكمتها الكنيسة لقرون طويلة، وبقيت كذلك إلى أن قامت الثورات وفصلت الدين عن الحياة، وأوجدت عقيدة الحل الوسط بين رجال الدين ورجال السياسة، فأوجدت السلطة الروحية المتمثلة برجال الدين، ومكانهم في الكنيسة، وأوجدت السلطة الزمنية لرجال السياسة ومكانهم في الحكم والدولة، ومن هنا وجد ما يسمى بالدولة العلمانية التي تقصي الدين عن الحياة، وتقوم على فصل الدين عن الحياة والدولة والمجتمع، هذا باختصار شديد مفهوم الدولة الدينية والدولة العلمانية، ولأن كلمة العلمانية قد ارتبطت في أذهان المسلمين بالكفر والزندقة، فقد استخدم بعض مفكري التيارات غير الإسلامية في البلاد الإسلامية بدلا عنها مصطلح الدولة المدنية، كي يكون أكثر قبولا من العلمانية، وقد انطلى هذا التحايل على كثير من رواد الحركات والأحزاب والجماعات الإسلامية، الى أن وصل الأمر في بعض هذه الحركات إلى تبني هذا المصطلح، والذي هو في الأساس يقابل عسكرة الدولة أي الدولة التي يقودها العسكر، فالدولة التي تحكم من قبل الجنرالات تسمى دولة عسكرية، والدولة التي تحكم من قبل رجال السياسة المدنيين تسمى دولة مدنية، لكن هؤلاء قد محوروا هذا المعني إلى معنى الدولة العلمانية اللادينية، وبهذا يتبين لنا أن هذه المصطلحات غير موجودة في القاموس الإسلامي، ولم تستخدم من قبل حكام المسلمين الذين حكموا بالإسلام طوال ثلاثة عشر قرنا.
ثانيا: دولة الخلافة هي رئاسة عامة للمسلمين في الدنيا، حكامها بشر؛ يحكمون فيها بشرا مثلَهم، ويطبقون فيها أنظمة وقوانين معدة للتطبيق على البشر، تشتمل احكاما عامة تطبق على كل من يحمل تابعية الدولة دون تمييز، بغض النظر عن الدين او اللون او اللغة او غير ذلك، لكن الفرق بينها وبين الأنظمة والقوانين في الدول الأخرى، أنّ هذه الأنظمة والقوانين والأحكام مأخوذة من الكتاب والسنة وما أرشدا اليهما من إجماع صحابة وقياس فقط، أي انها مأخوذة من عند رب البشر، والأنظمة والقوانين والأحكام عند غيرها من الدول مأخوذة من البشر.
ثالثا: المسلمون ملزمون بأخذ الإسلام كاملا، ومعلوم أنّ الإسلام هو عقيدة ينبثق عنها أنظمة تشمل جميع مناحي الحياة والدولة والمجتمع، وتنظم علاقات الإنسان مع نفسه ومع ربه ومع غيره من بني البشر، ولا يجوز لهم أخذ الأنظمة والأحكام من غير الإسلام لقوله تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } ولقوله { أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } وغيرها الكثير من الآيات والأحاديث الدالة على ذلك، فلا يجوز لنا أن نحكم بغير الإسلام بل لا يجوز لنا أن نأخذ بعضه ونترك بعضه لقوله تعالى: { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ }، ومصادر هذه الأحكام هي الوحي.
رابعا: معلوم من الدين بالضرورة أنّ الكتاب والسنة هما من الوحي، فالكتاب لفظا ومعنى من الله، والسنة معنى لا لفظا من الله، ولم يقل احد أن السنة هي فقط الأقوال دون الأفعال، وإذا كان الأمر كذلك فيجب الالتزام بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم، ووجوب التأسي والإتباع له، لقوله تعالى: { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } وقوله تعالى: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر }، ورجاء الله واليوم الآخر هي قرينة على وجوب الإتباع، وقد كانت له أفعال وأقوال في الأحكام المتعلقة بالأفراد، وكانت له كذلك أفعال وأقوال في علاقات الحاكم – بصفته الدولة- مع الدول الأخرى ومع الأفراد، وله أقوال وأفعال متعلقة بالمعاونين والولاة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: “… وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر” وأيضا من إرساله ولاة على الأمصار، كما أرسل معاذا وعليا، فكيف يصح أن يأخذ المسلمون بعض أحكامه ويتخلوا عن بعضها، يأخذون ما وافق هواهم ويتركون ما خالفه، { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنّ الله قد نهى نهيا جازما عن إتباع الهوى في التشريع، بقوله تعالى: { وان احكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع أهواءهم، واحذرهم ان يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك }، وكيف نفعل بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أخذ شيء ليس من مطلق البشر فحسب، بل حتى من أهل الكتاب فقد روى الإمام أحمد : عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم قال: فغضب وقال: [ أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب ؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبونه أو بباطل فتصدقونه والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني ] وقال الإمام أحمد: عن عبد الله بن ثابت قال: جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني مررت بأخ لي من قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بن ثابت: فقلت له: ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا قال: فسري عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال : [والذي نفس محمد بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين] تفسير ابن كثير [ جزء 2 – صفحة 613، وكذلك لم ينقل أحد حتى برواية ضعيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذ عن الفرس أو الروم نظام حكمهم أو جزءا ولو يسيرا منهم، قال تعالى: { ثمّ جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون }، فوصف أخذ غير أحكام الشريعة باتباع أهواء الذين لا يعلمون، وكذلك أمر في حالة التنازع بين الحكام والرعية برده إلى الله والرسول أي إلى الكتاب والسنة وليس الى أهواء البشر، قال تعالى: { يا ايها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر }، والحكام هم ولاة الأمر الشرعيين، وليسوا مغتصبي السلطة.
وفي المحصلة بماذا يصف من يطالب بالدولة المدنية من المسلمين النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسوس الناس في الدولة، ويطبق فيها نظام حكم واقتصاد وسياسة خارجية وغيرها من الأنظمة؟! ومن هم ولاة الأمر الذين ذكروا في القرآن والسنة؟! وبماذا يسمون أبا بكر وعمر وعثمان وعلي عندما كانوا يحكمون الناس؟! فإذا كان هؤلاء ليسوا حكاما مسلمين فماذا يكونون إذن؟! وهل استطاعوا أن يوجدوا هم هذا النظام المتميز في الحكم والاقتصاد والسياسات المختلفة وغيرها؟! ما لهؤلاء الذين يفترون على الله الكذب لا يكادون يفقهون حديثا!!.
وكيف يقبل بشر أن يأخذ بتشريع بشر، ونحن نرى أن الثورات قامت على تشريعات البشر، فكيف يقبلون استبدالها بتشريعات بشر أيضا، { أفحكم الجاهلية يبغون } ومعلوم أن من يشرع من البشر يشرع حسب أهوائه ومصالحه، واتخاذ البشر مشرعين من دون الله هو اتخاذهم آلهة يعبدون من دون الله، كما قال تعالى: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله }، رُوِيَ عَنْ عُدَيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ لِي: “يَا عُدَيُّ اطْرَحْ هَذَا الْوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ”، فَطَرَحْتُهُ ثُمَّ انْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقْرَأ:( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله(حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا، قُلْتُ لَهُ : إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُم، فَقَالَ : ” أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ وَيَحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَتَسْتَحِلُّونَهُ ” ؟ قَالَ قُلْتُ : بَلَى ، قَالَ : ” فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ “
والنتيجة أنّ العقيدة الإسلامية كما ينبثق عنها أحكام العبادات، ينبثق عنها أيضا نظام حكم ونظام اقتصاد ونظام سياسة خارجية وجميع أنظمة الحياة والدولة والمجتمع، طبقها الرسول صلى الله عليه وسلم عمليا، في الدولة الإسلامية الأولى التي أقامها في المدينة، وسار على نهجه الخلفاء الراشدون من بعده، واستمر هذا التطبيق لهذه الأنظمة في جميع عصور الدولة الإسلامية حتى إلغائها من قبل مجرم هذا العصر مصطفى كمال أتاتورك في مطلع القرن الماضي، وما حدث من بعض الإساءات في التطبيق لم يخرج الدولة عن كونها دولة إسلامية، بل بقيت تستمد أحكامها وأنظمتها وقوانينها من الإسلام، وكان الإسلام هو المصدر الوحيد للدولة الإسلامية في جميع تشريعاتها وأنظمتها وأحكامها، ولم يُنقل أن حكما واحدا أخذ من غير الإسلام، وها هي كتب الفقه وهي التي تمثل الثروة التشريعية للأمة الإسلامية والدولة الإسلامية زاخرة بالأحكام المستنبطة من أدلتها التفصيلية، ولمن أراد الإطلاع على تفاصيل أنظمة الحكم والاقتصاد وغيرها فعليه بالرجوع إلى كتب حزب التحرير التي أفرد لها كتبا خاصة بكل نظام، وضعها نتيجة استقراء واستنباط للنصوص الشرعية من الكتاب والسنة، ومما ارشدا اليه من قياس وإجماع صحابة فقط، والسنة تشمل السنة القولية والسنة الفعلية وسكوت النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حدد أربع قواعد للحكم هي:
1- السيادة للشرع وليست للشعب أو للأمة، ودليلها قوله تعالى { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم }.
2- السلطان أي الحكم للآمة، ودليله “بايعْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره”.
3- نصب خليفة واحد فرض على المسلمين، ” إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما”.
4- للخليفة وحده حق تبني الأحكام الشرعية، “أمر الإمام يرفع الخلاف”
وبهذا يتبين لنا أنّ دولة الخلافة هي دولة بشرية تستمد أحكامها من الإسلام فقط، وبالتالي فهي ليست دولة مدنية او علمانية وكذلك ليست دولة دينية او كهنوتية.
أحمد أبو قدوم