فضلُ يومِ عَرَفَة
الحمد لله حمد الشاكرين, والعاقبة للمتقين, ولا عدوان إلا على الظالمين, والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين, وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين, ومن اهتدى بهديه, واستن بسنته, وسار على دربه, ودعا بدعوته إلى يوم الدين، واجعلنا معهم, واحشرنا في زمرتهم, برحمتك يا أرحم الراحمين. أما بعد:
رَوَى التَّرمذيُّ في سُنَنِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ, وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ, لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ, وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».
أيها المؤمنون:
يطل علينا غداً يوم عظيم مبارك, يوم يتميز على سائر بخيره الوفير, وفضله العظيم, ومنـزلته التي لا حدَّ لها. هذا اليوم هو يوم عرفة المبارك, فهو من أعظم الأيام, وأحبها إلى الله, حيث جعله المولى تبارك وتعالى ركن الحج الأعظم, الذي لا يقبل إلاَّ به, قال صلى الله عليه وسلم :«الحج عرفة». فمن أدرك عرفة أدرك الحج, ومن لم يدركه فلا حج له.
والدعاء في هذا اليوم من أكثر الأدعية قبولاً واستجابة. روي أن علي بن الموفق وقف بعرفة في بعض حجاته, وكان قد حج كثيراً, فرأى كثرة الناس فقال: “اللهم إن كان منهم أحد لم تَقبل حَجَّهُ, فقد وهبته حجتي”. فقال الله تعالى له في منامه: “يا ابن الموفق, أتتسخَّى عليَّ؟ قد غفرتُ لأهل الموقف ولأمثالهم, وشفَّعتُ كل واحد منهم في أهل بيته, وذريته وعشيرته”. فإذا دعا لهم استجاب الله دعاءه. وهو سبحانه أهل التقوى وأهل المغفرة.
أيها المؤمنون:
هكذا يكون كرم الله تبارك وتعالى وعفوه يوم عرفة, عفو يسع المسلمين جميعاً! مصداقاً لقوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}. (النجم32)
ولكن لمن هذه المغفرة؟ إنها لحجاج بيت الله الحرام, الذين وقفوا بعرفة, ولأمثالهم من المسلمين, الذين يحفظون أنفسهم مما يُغضِبُ اللهَ عزَّ وجلَّ, ويزكونها بما يرضيه من أعمال, وأي عمل يرضيه سبحانه أفضل من حمل الدعوة لإقامة دولة الخلافة التي تطبق شرع الله, وتقيم حدوده على عباده؟
رَوَى ابنُ مَاجةَ في سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلمقَالَ: «إِقَامَةُ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ، خَيْرٌ مِنْ مَطَرِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فِي بِلاَدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ». فيوم عرفة يوم عتق من النار لمن وقف بعرفة, ولمن لم يقف ممن لم يشهد زوراً, ولم يغتب أحداً, ولم ينمَّ على مسلم, ولم يكذب ولو كان مازحاً! رَوَى الطَّبرانيُّ في المُعجَمِ الكَبيرِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ، وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ، وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلْقُهُ».
أيها المؤمنون:
ماذا علينا نحن المسلمين, وعلى حجاج بيت الله الحرام, أن نفعل إن أردنا أن نحوز هذا الفضل العظيم, وهذا الخير العميم في هذا اليوم المبارك؟ علينا وعليهم أن يقوم كُلٌ منَّا بهذه الأعمال علَّنا نفوزُ بثوابِ اللهِ ومغفرتِهِ ورضوانِه:
أولاً: التلبسُ بِعَملِ حمَلِ الدَّعوةِ لإقامةِ دولةِ الخلافة, التي تطبِّقُ شرعَ الله, وتُقيمُ حدوده على عباده, لأن هذا العمل من أفضل الأعمال المبرئة للذمة, والتي تقي صاحبها من أن يموت ميتة جاهلية.
رَوَى مُسلمٌ في صَحيحِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ حِينَ كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحَرَّةِ مَا كَانَ زَمَنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: اطْرَحُوا لأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وِسَادَةً فَقَالَ: إِنِّى لَمْ آتِكَ لأَجْلِسَ, أَتَيْتُكَ لأُحَدِّثَكَ حَدِيثًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُهُ. سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِىَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ حُجَّةَ لَهُ, وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».
ثانياً: الإكثار من الدعاء, والتذلل لله تبارك وتعالى, وأن يكون هذا الدُّعاءُ خالصاً لوجهه الكريم, وجامعاً لخيري الدنيا والآخرة, عسى الله تبارك وتعالى أن يكُفَّ بأسَ الذينَ كفرُوا, ويُحبِطَ مُخططاتِهم ومؤامراتِهم ضدَِّ المسلمين, وعسى اللهُ أن يُفرِّجَ كَربَ المسلمين, ويَحقِنَ دماءَهمُ التي تُسفكُ كُلَّ يومٍ في الليل والنهار, وعلى أيدي الطواغيت والحكام الظلمة, وعسى الله جلَّت قدرتُه أن يجعلَ ثَوراتِ الرَّبيعِ العربيِّ تتحولُ إلى شتاءٍ إسلاميٍّ يُكرمَنا فيه ربُّ العزَّة بقيام دولة الخلافة التي يَرضى عنها ساكنو الأرض, وساكنو السماء! اللهمَّ أعزَّنا بالإسلام, وأعزَّ الإسلام بنا يا كريم. اللهمَّ أبرم لأمةِ الإسلامِ أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهل طاعتك, ويُذلُّ فيه أهل معصيتك, عزاً يُعَزُّ فيه الإسلامُ وأهلُه, وذلاً يُذَلُّ فيه الكفرُ والنفاق وأهلُه, وتقومُ فيه دولةُ الإسلام.
ثالثاً: قيامُ ليلة عرفة بالصلاة وقراءة القرآن, وصيامُ نهاره عن الطعام والشراب والشهوة, وعن كل ما يغضب الله تبارك وتعالى, فيَغضُّ المرءُ بَصَره, ويَكفُّ سمعَهُ, ويَحفظُ لسانَهُ, فيتحقَّقُ لهُ صومٌ متكامل.
رَوَى البَيهَقيُّ في شُعبِ الإيمان عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ حَفِظَ لِسَانَهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ غُفِرَ لَهُ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى عَرَفَةَ».
أيها المؤمنون:
رُويَ أنَّ الفُضيلَ بنَ عِيَاضٍ أحدَ الصَّالحينَ السَّابقينَ كانَ واقفاً بعرفاتٍ يخاطبُ الحجَّاج قائلاً: ما تقولون لو قصد هؤلاء بعض الكرماء يطلبون منه دانقاً أي ما يعادل قرشاً ونصف القرش, أكان يردُّهم؟ قالوا: لا, فقال: للمغفرةُ في جَنبِ كَرَمِ اللهِ أهونُ على اللهِ عزَّ وجلَّ مِنَ الدانقِ في جَنبِ كَرَمِ ذلكَ الرَّجُل! فليعظم المسلم رجاءه بالله في يوم عرفة فإنه تواب عظيم على من تاب وأناب! قال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى}. (طه82)
ولقد بين الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فضل هذا اليوم, فقد روى مالك في الموطأ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْماً، هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلاَ أَدْحَرُ وَلاَ أَحْقَرُ وَلاَ أَغْيَظُ، مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ، وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ، إِلاَّ مَا أُرِيَ يَوْمَ بَدْرٍ». قِيلَ وَمَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلاَئِكَةَ». أي يرتبهم للحرب.
وروى ابن حبان في صحيحه عن أبي قتادة أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله، أرأيتَ رجلاً يَصومُ يَومَ عاشوراء؟ قال: «ذاك صومُ سنة». قال: أرأيتَ رجلاً يَصومُ يَومَ عَرفَة قال: «يكفِّرُ السَّنةَ وَمَا قَبلَها». ورَوَى مُسلمٌ في صَحِيحِهِ عَن عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ, وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِى بِهِمُ الْمَلاَئِكَةَ فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلاَءِ».
وروى ابن خزيمة في صحيحه عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ إِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ فَيُبَاهِي بِهِمُ الْمَلاَئِكَةَ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا ضَاحِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ, فَتَقُولُ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ: أَيْ رَبِّ فِيهِمْ فُلاَنٌ يَزْهُو, وَفُلاَنٌ وَفُلاَنٌ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَمَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرُ عَتِيقًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ».
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كتبه الأستاذ محمد أحمد النادي