مراكز التفكير والدراسات ودورها في إنتاج المعرفة وصناعة الرأي العام والقرار السياسي ح1
الأمم العريقة إنما هي عريقة بأفكارها ولذلك كان الفكر عندها هو حجر الأساس الذي تبنى عليه جميع تصرفاتها وهو المحور الذي تدور حوله الأحداث وعلى مر العصور كانت الأمم والشعوب إذا حزبها خطب أو أمر لجأت إلى مفكريها وأصحاب الرأي فيها لإرشادها وقيادتها ولعل ذلك هو السبب الذي يجعل صناع القرار السياسي في الدول ذات السيادة يتخذون مستشارين في كافة شؤون الدولة في السياسة والاقتصاد. ولهذا يقول ريتشارد هاس الذي شغل منصب رئيس مجلس العلاقات الخارجية وقبل ذلك كان مديراً لهيئة تخطيط السياسة وأحد المستشارين الرئيسيين لوزير الخارجية الأمريكي الأسبق كولن باول: (في أكثر الأوقات صعوبة بالنسبة للسياسات الأمريكية في العالم، تشكل مراكز التفكير عيوناً وآذاناً للحكومة الأمريكية) ومن أجل أن يتم إيصال الأفكار إلى سدة الحكم أو صنّاع القرار السياسي كان ذلك يتطلب عملا حثيثا وجهدا متواصلا حتى يتم تبني هذه الرؤى والأفكار وذلك غالبا عن طريق ما يسمى مراكز التفكير وهي المعاهد ومراكز الدراسات والأبحاث.
إن هذه المراكز هي أهم الأدوات التي أنتجها العقل البشري لإنتاج المعرفة في القرنين الفائتين؛ وبالتالي أهّلها لأن يصبح لها دور ريادي في قيادة الدول العظمى، وصارت هذه المراكز أداة لإنتاج العديد من المشاريع الإستراتيجية الفاعلة على كافة المستويات: السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية. وتشكل مراكز الدراسات والأبحاث مصدراً أساسياً للمعلومات والنصح لصنّاع القرار في دول العالم على مختلف مستوياتهم؛ وتزويد الإدارات المتتابعة والأجهزة المختلفة بالخبراء والمختصين في كافة المجالات الإستراتيجية، كما أنها أوعية لتدريب جيل جديد من القيادات الفكرية والسياسية لوضع وإدارة السياسة العامة للدولة حيث تؤدي تلك المراكز في الولايات المتحدة -على سبيل المثال- دوراً أساسياً في صياغة الإستراتيجيات الأمريكية. ولعل مؤسسة راند الأمريكية العقل المفكر لوزارة الدفاع الأمريكية، في مجال إعداد الدراسات والأبحاث الخاصة بالأسلحة الأمريكية وأنظمة الدفاع المختلفة هي الرائدة في هذا المجال فقد ذكر بول بريمر الحاكم الأميركي المدني السابق للعراق في مذكراته عن غزو العراق (My Year In Iraq) أنه عندما وطئت قدماه أرض العراق ودخل مكتبه لأول مرة وبدأ يفكر في طريقة تسييره لشؤون هذا البلد، كان أول ما وُضع بين يديه تقرير استراتيجي أعدته مؤسسة راند عن أفضل السبل لتسيير الوضع في العراق المحتل.
وهذه المعاهد والمراكز ليس كلها من لون واحد فهي تنقسم فكرياً وسياسياً إلى مراكز فكرية يمينية محافظة، ومراكز فكرية معتدلة، ومراكز فكرية يسارية متحررة. وهناك مراكز تهتم بالسياسة الخارجية والعلاقات والشؤون الدولية ومراكز أخرى تهتم بالشؤون الداخلية والسياسات والموضوعات المحلية في المجتمع. وهذه المعاهد والمراكز يستخدمها الغرب من فترة طويلة ,, ولها الفضل الأكبر عليه في أن جعلت منه رائداً وقائداً في كافة المجالات.
ويمكن إجمال العلاقة بين المراكز الفكرية الأميركية وصناع القرار الأميركي في الجوانب التالية:
- اختيار مستشارين وباحثين من المراكز الفكرية للعمل في الإدارة الأميركية،
- انتقال العاملين بالإدارة الأميركية للعمل ضمن المراكز الفكرية الأميركية.
- والاستفادة من الدارسات والأبحاث والخبرات المتوافرة لدى المراكز الفكرية قبل صناعة القرار،
- والاستعانة بالمراكز الفكرية في التأثير على الرأي العام،
- وأخيراً دفع المراكز الفكرية إلى صياغة القضايا المستجدة فكرياً بشكل يخدم الإدارة الأميركية.
أما المراكز الفكرية الأميركية وتأثيرها على صناعة القرار الأميركي فنتابعه في الحلقة القادمة إن شاء الله. إلى ذلك الحين نستودعكم الله،،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمد ذيب