تأملات في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية” الحلقة الثانية عشرة
الحمد لله رب العالمين, والصَّلاةُ والسَّلامُ علَى إمامِ المتقين, وسيِّدِ المرسلين, المبعوثِ رحمةً للعالمين, سيدِنا محمدٍ وعلَى آلهِ وصَحبِهِ أجمعين, واجعلنا مَعَهم, واحشرنا في زُمرتهم برَحمتكَ يا أرحمَ الراحمين.
السلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه, وبعد: في هذه الحلقة نواصل تأملاتنا في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية”. ومن أجل بناء الشخصية الإسلامية, مع العناية بالعقلية الإسلامية والنفسية الإسلامية, نقول وبالله التوفيق:
أيها المسلمون:
قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}. (المائدة 54)
في الآية الكريمة خطابٌ علَى وَجهِ التَّحذيرِ والوعيد، والمعنى: يا مَعشَر المؤمنينَ مَن يَرجِعُ مِنكُم عَن دِينِه الحقّ، ويُبدِّلُه بدينٍ آخَر، ويَرجِعُ عَنِ الإيمانِ إلى الكُفر, وفي الآيةِ إعلامٌ بارتِدادِ بَعضِ المسلمينَ, فهو إخبارٌ بالغيبِ قَبلَ وقُوعِهِ، وقَد ارتدَّ عَنِ الإسلامِ فِرَقٌ كثيرةٌ، مِنهُم من ارتدَّ في عَهدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ومِنهُم في عَهدِ أبي بَكر، وقَدِ ارتدَّ بنُو حنيفةَ قَومُ “مسيلمةَ الكذَّاب” وكَتَبَ مُسيلمةُ إلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “مِن مُسيلمةَ رَسُولِ اللهِ إلى محمَّدٍ رَسُولِ الله أما بعد: فإنَّ الأرضَ نِصفُها لي ونصفُها لَك”. فأجابهُ عليهِ السَّلام: «مِن محمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إلى مُسيلمةَ الكذَّاب أما بعد: فإنَّ الأرضَ للهِ يُورثُها مَن يَشاءُ مِن عِبادِه والعاقبةُ للمُتَّقين».
ثمَّ بيَّنتِ الآياتُ الكريمةُ صِفاتِ الذينَ يحبُّهمُ اللهُ سُبحانه. قَالَ تعالى: {فَسوفَ يأتي اللهُ بقومٍ يحبُّهمُ ويحبُّونه}. أي فَسوفَ يأتي اللهُ مَكانَ الذينَ ارتدُّوا بأناسٍ مُؤمنينَ يحبُّهم اللهُ ويحبُّون الله. {أذلةٍ علَى المؤمنينَ أعزةٍ علَى الكافرينَ}. أي رُحماءَ مُتواضعينَ للمؤمنين، أشداءَ متعزِّزينَ علَى الكافرين، قال ابنُ كثير: وهذهِ صِفاتُ المؤمنينَ الكمَّل، أن يكونَ أحدُهم متواضعاً لأخيهِ, مُتعزِّزاً علَى عَدُوِّه كقولِهِ تعالى: {أشداءُ علَى الكفَّارِ رُحماءُ بَينهُم}. ومِن عَلامةِ حُبِّ اللهِ تعالى للمُؤمنِ أن يَكونَ ليِّنَ الجانِبِ، متواضعاً لإخوانِهِ المؤمنينَ، مُتسربلاً بالعزةِ حِيالَ الكافرينَ والمنافقين. {يجاهدونَ في سَبيلِ اللهِ وَلا يخافُونَ لَومةَ لائم}. أي يجاهدُونَ لإعلاءِ كَلِمَةِ الله، وَلا يُبالونَ بمَن لامَهُم، فهُم صِلابٌ في دِينِ اللهِ لا يخافُونَ في ذَاتِ اللهِ أحداً. {ذلكَ فضلُ اللهِ يُؤتيهِ مَن يَشاء}. أي مَنِ اتَّصفَ بهذه الأوصاف الحميدَة, فإنما هُو مِن فَضلِ اللهِ علَيهِ وتوفيقِه لَه. {واللهُ واسعٌ علِيم}. أي واسِعُ الأفضالِ والإحسانِ، علِيمٌ بمن يَستحِقُّ ذلك.
أيها المسلمون:
محبَّةُ اللهِ ورَسولِهِ مِنَ الأمُورِ التي ربطَهَا اللهُ سُبحانَهُ وتَعالى بمفهُومٍ شَرعيٍّ جَعلَهُ فَرضاً، والأدلَّةُ عَلى ذَلكَ مِنَ السُّنةِ مُستَفيضَةٌ مِنهَا حَدِيثُ كعبٍ بنِ مَالِكٍ الطَّويلُ في الثلاثَةِ الذينَ خُلِّفُوا عَن تَبوك، وَفيهِ يقُول كَعبٌ: «وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ, فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلاَةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَأَطُوفُ فِي الأَسْوَاقِ، وَلاَ يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ, وَآتِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهْوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلاَةِ, فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلاَمِ عَلَيَّ أَمْ لاَ؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ, فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلاَتِي أَقْبَلَ إِلَيَّ، وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي, حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ مِنْ جَفْوَةِ النَّاسِ, مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ, وَهْوَ ابْنُ عَمِّي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ, فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلاَمَ, فَقُلْتُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ, هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ فَسَكَتَ فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ, فَسَكَتَ فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ, فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ, فَفَاضَتْ عَيْنَايَ, وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ…».
ومنها أيضاً حديثُ سَهلِ بنِ سَعدٍ رضي الله عنه: «حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ لأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلاً يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَالَ فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا فَقَالَ أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقِيلَ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ قَالَ فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ فَأُتِيَ بِهِ فَبَصَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ فَقَالَ عَلِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا فَقَالَ انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإسْلامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ فَوَاللَّهِ لأنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ».
قُلنا أيها المسلمون:
إنَّ محبَّةَ اللهِ ورَسولِهِ مِنَ الأمُورِ التي ربطَهَا اللهُ سُبحانَهُ وتَعالى بمفهُومٍ شَرعيٍّ جَعلَهُ فرضاً، فَهل أدَّينا هَذا الفَرضَ علَى وَجهِهِ المطلوبِ كَما أدَّاهُ صَحابةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَي يُكرمَنَا اللهُ بِنصرِهِ كَمَا أكرَمَهُم, ويُعزَّنا بدِينِنَا كَمَا أعزَّهُم؟
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, عَلَى أنْ نُكمِلَ تأمُّلاتنا في الحَلْقاتِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعالى, فإلى ذَلكَ الحِينِ وَإلى أنْ نَلقاكُم, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ.
وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.