تأملات في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية” الحلقة الثانية والعشرون
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على إمام المتقين, وسيد المرسلين, المبعوث رحمة للعالمين, سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, واجعلنا معهم, واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها المسلمون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وبعد: في هذه الحلقة نواصل تأملاتنا في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية”. ومن أجل بناء الشخصية الإسلامية, مع العناية بالعقلية الإسلامية والنفسية الإسلامية, نقول وبالله التوفيق:
قلنا في الحلقة السابقة: إن الأمة الإسلامية التي أنجبت أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وخالدا وأبا عبيدة والقعقاع وصلاح الدين وغيرهم من قادة الفتح العظماء الذين سطروا التاريخ المجيد لهذه الأمة, لا زالت بحمد الله قادرة على إن تنجب قادة عظماء أمثالهم! وقدمنا لكم أنموذجا واحدا من هذه الشخصيات, وفي هذه الحلقة نقدم لكم أنموذجا آخر!
أيها المسلمون:
في الثمانينات من القرن الماضي كان الملك حسين ملك الأردن قد فتح باب التطوع للقتال مع الجيش العراقي في حربه مع إيران, فما كان من حزب التحرير إلا أن أصدر نشرة عنوانها: “التطوع للعراق حرام شرعا” وجاءت التعليمات من قيادة الحزب أن توزع هذه النشرة توزيعا كفاحيا, أي بشكل علني في الأماكن المزدحمة, وفي رابعة النهار, وبادر شباب الحزب إلى تنفيذ التعليمات على الوجه المطلوب, فقامت أجهزة المخابرات في ولاية الأردن باعتقال عدد منهم. وكنت أيامها شابا في الثلاثين من عمري وحديث عهد بالدعوة, فالتقيت بهم في السجن أثناء فترة اعتقالي, وتعرفت إليهم, وتعلمت من مواقفهم الكثير من الدروس والعبر, وكان من بين هؤلاء المعتقلين رجل في الخامسة والخمسين من عمره, يعاني من خمسة أمراض هي: الضغط, والسكري, والقرحة المعدية, والنقرص, والتهاب الحلق المزمن.
قال المحقق: كي تخرج من عندنا لا بد من أن تفعل أمرين اثنين: الأول: أن تعطينا معلومات كاملة عن الحزب وكيفية انضمامك إليه, والثاني:أن تعلن استنكارك وبراءتك من هذا الحزب المحظور وغير المشروع. قال أبو جابر: إنكم أنتم أيها العاملون في أجهزة المخابرات جبناء, وسأثبت لكم بالدليل القاطع أنكم جبناء.
قال المحقق: – مستهزئا – لقد صرت فيلسوف زمانك! قال أبو جابر: أنا لست فيلسوفا, وإنما أنا حامل دعوة, أدعو لإقامة دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة, التي ستقوم قريبا إن شاء الله تعالى. قال المحقق: ما الذي يجعلك واثقا إلى هذا الحد؟ قال أبو جابر: الخلافة وعد الله, وبشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد, ورسوله صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى, بل هو وحي يوحى. قال المحقق: ما شأنكم أنتم والخلافة الراشدة هذه؟ لماذا لا تستريحون, وتدعوننا نستريح؟
قال أبو جابر: إقامة الخلافة فرض أوجبه الله, والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة, وأراد أبو جابر أن يسترسل في حديثه, إلا أن المحقق قاطعه. قال المحقق: أين تظن نفسك؟ هل تريد إعطائي حلقة من حلقات الحزب؟
أيها المسلمون:
وهنا تذكر أبو جابر قول الله جل في علاه: {يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار}. فقال: أيها المحقق: من أفضل في نظرك أربع وخمسون دويلة هزيلة ليس لها أي وزن في الموقف الدولي, أم دولة الخلافة الواحدة القوية التي تستمد قوتها من ربها الواحد القوي, وتكون هي الدولة الأولى في العالم؟! قال المحقق: دعنا من كلامك, وأجب عن الأسئلة الموجهة إليك. قال أبو جابر: قلت إنكم جبناء, وسأثبت لكم أنكم جبناء! قال المحقق: عدنا إلى الفلسفة مرة أخرى! قال أبو جابر: قلت لك إني لست فيلسوفا ولا دخل لي بالفلسفة!
قال المحقق: هيا أيها الفصيح هات ما عندك! قال أبو جابر: عندما يضعف شاب من شباب الحزب حديث العهد بالدعوة, فيعطيكم المعلومات التي تريدونها, ويعلن براءته واستنكاره من الحزب, فإنكم سرعان ما توافقون على نشر إعلانه في الصحف الرسمية للدولة. فإن لم تكونوا جبناء, وكانت عندكم الجرأة والشجاعة فائتوني بورقة وقلم لأنني أريد أن أعلن الآن براءتي واستنكاري, وأريدكم أن توافقوا على نشرها حرفيا بالنص الذي أكتبه لكم, فإن فعلتم ذلك فأنتم شجعان, وإلا فأنتم جبناء كما قلت لكم, وبعدها إن لم تعجبكم براءتي واستنكاري قوموا بإعدامي واشنقوني من هنا, وأشار بيده إلى حلقه! قال المحقق: هاك الورقة والقلم لنرى ما ستكتب!
أيها المسلمون:
ويأخذ أبو جابر الورقة والقلم ويكتب:
“بسم الله الرحمن الرحيم أنا المدعو محمود جابر والملقب بأبي جابر, عضو من أعضاء حزب التحرير, أعمل لاستئناف الحياة الإسلامية بإقامة دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة, أعلن استنكاري وبراءتي من تعطيل شرع الله, والحكم بغير ما أنزل الله, وأعلن استنكاري وبراءتي من كل ما يغضب الله تعالى كالبنوك الربوية, والخمارات المفتوحة بترخيص من قبل الدولة, وأعلن استنكاري وبراءتي من الجسور المفتوحة مع يهود, ومن الجلوس معهم على طاولة الصلح والمفاوضات, وأعلن استنكاري وبراءتي ممن يحاربون حملة الدعوة, ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون, أعلن استنكاري وبراءتي من كل ذلك, وأعلن ولائي لله رب العالمين, ولرسوله ولكتابه, ولجماعة المؤمنين”.
فهل توافقون على نشر هذه البراءة, وهذا الاستنكار ؟
قال المحقق: احتفظ بأفكارك لنفسك! فنحن لا نسمح بنشر مثل هذه الأفكار. قال أبو جابر: أرأيتم كيف أنكم جبناء, تخافون من مجرد الكلام! قال المحقق: – مهددا – قل كلاما على قدرك ومستواك! هل أنت على قدر ومستوى هذا الكلام الذي تقوله, وتتلفظ به؟
قال أبو جابر: أجل, أنا أتحمل مسئولية كل حرف أتلفظ به!
قال المحقق: لنرى ذلك! وأوعز للعسكر أن يذهبوا بأبي جابر إلى ساحة التعذيب, وقام الجلاوزة والجلادون بتعذيبه تعذيبا شديدا مؤلما, وهو يتلو تحت سياطهم قول الله تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق}. وظل هذا الشيخ الجليل صابرا على هذا التعذيب المؤلم, دون أن ينالوا منه معلومة واحدة تضر بأي عضو من أعضاء الحزب, إلى أن انتهى به المقام في السجن بضع سنين! فما رأيكم أيها المؤمنون بهذه الشخصية, وهذا الأنموذج, وهذا البناء للعقلية, والنفسية؟ ألا يشبه شخصيات الصحابة رضي الله عنهم؟
نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة, على أن نكمل تأملاتنا في الحلقات القادمة إن شاء الله تعالى, فإلى ذلك الحين وإلى أن نلقاكم, نترككم في عناية الله وحفظه وأمنه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محمد أحمد النادي