مع الحديث الشريف لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها
عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ أَوْ مَوْضِعُ يَدِهِ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى الْأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلَأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا
جَاءَ فِي تُحْفَةِ الْأَحْوَذِيِّ بِشَرْحِ جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ
قَوْلُهُ : ( لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ )
قَالَ الْحَافِظُ : الْغَدْوَةُ بِالْفَتْحِ : الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنْ الْغَدْوِ وَهُوَ الْخُرُوجُ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى اِنْتِصَافِهِ , وَالرَّوْحَةُ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنْ الرَّوَاحِ وَهُوَ الْخُرُوجُ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا
( خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا )
قَالَ اِبْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ تَنْزِيلِ الْمَغِيبِ مَنْزِلَةَ الْمَحْسُوسِ تَحْقِيقًا لَهُ فِي النَّفْسِ لِكَوْنِ الدُّنْيَا مَحْسُوسَةً فِي النَّفْسِ مُسْتَعْظَمَةً فِي الطِّبَاعِ , فَلِذَلِكَ وَقَعَتْ الْمُفَاضَلَةُ بِهَا , وَإِلَّا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الدُّنْيَا لَا يُسَاوِي ذَرَّةً مِمَّا فِي الْجَنَّةِ , وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الثَّوَابِ خَيْرٌ مِنْ الثَّوَابِ الَّذِي يَحْصُلُ لِمَنْ لَوْ حَصَلَتْ لَهُ الدُّنْيَا كُلُّهَا لَأَنْفَقَهَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى . قَالَ الْحَافِظُ : وَيُؤَيِّدُ الثَّانِيَ مَا رَوَاهُ اِبْنُ الْمُبَارَكِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ مِنْ مُرْسَلِ الْحَسَنِ قَالَ : بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشًا فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَتَأَخَّرَ لِيَشْهَدَ الصَّلَاةَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقْت مَا فِي الْأَرْضِ مَا أَدْرَكْت فَضْلَ غَدْوَتِهِمْ ” . وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَادَ تَسْهِيلُ أَمْرِ الدُّنْيَا وَتَعْظِيمُ أَمْرِ الْجِهَادِ وَأَنَّ مَنْ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْجَنَّةِ قَدْرُ سَوْطٍ يَصِيرُ كَأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ مِنْ جَمِيعِ مَا فِي الدُّنْيَا , فَكَيْفَ بِمَنْ حَصَّلَ مِنْهَا أَعْلَى الدَّرَجَاتِ , وَالنُّكْتَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ التَّأْخِيرِ عَنْ الْجِهَادِ الْمَيْلُ إِلَى سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الدُّنْيَا . فَنُبِّهَ هَذَا الْمُتَأَخِّرُ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ الْيَسِيرَ مِنْ الْجَنَّةِ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ مَا فِي الدُّنْيَا
( وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ )
أَيْ قَدْرُهُ , وَالْقَابُ بِالْقَافِ وَآخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ مَعْنَاهُ الْقَدْرُ , وَقِيلَ الْقَابُ مَا بَيْنَ مِقْبَضِ الْقَوْسِ وَسِيَتِهِ , وَقِيلَ مَا بَيْنَ الْوَتَرِ وَالْقَوْسِ , وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْقَوْسِ هُنَا الذِّرَاعُ الَّذِي يُقَاسُ بِهِ , وَكَأَنَّ الْمَعْنَى بَيَانُ فَضْلِ قَدْرِ الذِّرَاعِ مِنْ الْجَنَّةِ
( أَوْ مَوْضِعُ يَدِهِ )
شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي أَيْ مِقْدَارُ يَدِهِ
( خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا )
أَيْ مِنْ إِنْفَاقِهَا فِيهَا لَوْ مَلَكَهَا , أَوْ نَفْسِهَا لَوْ مَلَكَهَا لِأَنَّهُ زَائِلٌ لَا مَحَالَةَ
( أَطَلَعَتْ إِلَى الْأَرْضِ )
أَيْ أَشْرَفَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ إِلَيْهَا
( لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا )
أَيْ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ , أَوْ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ , وَمَا بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِتَحَقُّقِ ذِكْرِهِمَا فِي
لْعِبَارَةِ صَرِيحًا قَالَهُ الْقَارِي
( وَلَمَلَأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا )
أَيْ طَيِّبَةً
( وَلَنَصِيفُهَا )
هُوَ الْخِمَارُ
( عَلَى رَأْسِهَا )
قَيَّدَ بِهِ تَحْقِيرًا لَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خِمَارِ الْبَدَنِ جَمِيعِهِ
(خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا )
أَيْ فَكَيْفَ الْجَنَّةُ نَفْسُهَا وَمَا بِهَا مِنْ نَعِيمِهَا .
الْجِهَادُ فَرْضٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، قَالَ تَعَالَى { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ } وَقَالَ تَعَالَى { قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ }. وَقَالَ صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ ( أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتىَّ يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إَلاَّ الله ُ) وَقَالَ ( الْجِهَادُ مَاضٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) وَقَالَ ( مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ مَاتَ عَلَى بَقِيَّةٍ مِنَ النِّفَاقِ ) ، وَقَالَ ( الْجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ مَعَ كُلِّ أَمِيرٍ بِرّاً كَانَ أوْ فَاجِرا ً).
وَالْجِهَادُ فَرْضُ كِفَايَةٍ ابْتِدَاءً، وَفَرْضُ عَيْنٍ إِنْ هَجَمَ الْعَدُوُّ عَلَى مَنْ هَاجَمَهُمْ، وَفَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَلاَ يَسْقُطُ الْفَرْضُ حَتَّى يُطْرَدَ الْعَدُوُّ وَتُطَهَّرَ أَرْضُ الْإِسْلاَمِ مِنْ رِجْسِهِ. وَمَعْنَى كَوْنِ الْجِهَادِ فَرْضُ كِفَايَةٍ ابْتِدَاءً هُوَ أَنْ نَبْدَأَ بِقِتَالِ الْعَدُوِّ وَإِنْ لَمْ يَبْدَأْنَا، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِالْقِتَالِ ابْتِدَاءً أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَنٍ مَا أَثِمَ الْكُلُّ بِتَرْكِهِ.
فَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ هُوَ ذُرْوَةُ سَنَامِ الْإِسْلاَمِ. وَالْإِسْلاَمُ بَدَأ َبِالضَّيَاعِ يَوْمَ أَنْ رَكَنَ النَّاسُ إِلَى مَعَاشَاتِهِمْ وَتَرَكُوا الْجِهَادَ بَلْ وَتَخَلَّوْا عَنْهُ.