الإقدام أم العجز – للأستاذ أبي عمر
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم وسار على دربهم بإحسان إلى يوم الدين.
الإخوة المستمعون الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الإقــــدام أم العجــــــز
إخوة الإيمان: الأخذ بأسباب القوة, ترك العجز, عدم إيجاد أو افتعال الأعذار والمبررات، الاستعانة بالله سبحانه, وتفويض المقادير إليه , وكياسة المؤمن , كل ذلك جاء مشمولا في حديث النبي صلى الله عليه و سلم الوارد في مسند أحمد وصحيح مسلم.
فعـَنْ أبي هـُرَيرَة َ رَضِيَ اللهُ عَـنهُ عَـن ِ النـَّبيِّ صلى الله عليه و سلم أنـَّهُ قالَ:( المُؤمِنُ القويُّ خـَيرٌ وَأحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤمِن ِ الضَّعيفِ , وَفِي كـُـلٍّ خـَيرٌ , احرصْ عَلى مَا يَـنفعُـكَ, وَاستعـِنْ باللهِ وَلا تعجَزْ وَإنْ أصَابَـكَ شَيءٌ فـَلا تـَقـُـلْ لـَو أنـِّي فعَلتُ كذا كانَ كذا, وَلكِـنْ قـُـلْ: قـَدَّرَ اللهُ وَمَا شـَاءَ اللهُ فعَـلَ, فإنَّ لـَو تـَـفتـَحُ عَـمَـل الشـَّيطـَانَ ).
المؤمن القوي أيها الإخوة المؤمنون: هو من كانت عزيمته قوية , من كان قويا في إيمانه , قويا في عقيدته , قويا في عقليته ونفسيته , قويا في جسمه , قويا في عبادته و طاعته , قويا في امتثاله لأوامر الله, قويا في اجتنابه لما حرم الله.
المؤمن القوي من كان أكثر إقداما على العدو , و أسرع من غيره في مواجهته والخروج إليه، مجاهدا إياه بسلاحه ولسانه وفكره كلما نادى المنادي للجهاد.
المؤمن القوي من كان اشد عزيمة في الأمر بالمعرف والنهي عن المنكر, وأكثر جرأة وشجاعة في الصراع الفكري والكفاح السياسي .
المؤمن القوي من كان أكثر صبرا ً على ما يصيبه من أذى في حمله الدعوة, يصبر على السجن والقمع والاعتقال والمطاردة والمداهمة ويتحمل المشاق, مشاق الغربة والحرمان من الوظيفة .
المؤمن القوي من يتخطى الصعاب ويحطم الحواجز التي تعترضه أثناء القيام بحمل الدعوة. المؤمن القوي من تكون عزيمته قويه في العبادات وفي جميع الطاعات.
بهذا يكون المؤمن القوي خيرا ً وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف العاجز عما يأتيه المؤمن القوي, والإيمان في الاثنين هو الخير الذي يحمد عليه الاثنان.
إن من ضعف الإيمان أيها الإخوة بل من العجز أن يقول المؤمن بعد وقوع الحدث منه أو عليه والذي لا يرضى عنه أو يرضاه: لو أني فعلت كذا…. لكان أسلم و أجدى, كأن يقول لو هربت من العدو ليلة المداهمة, أو لو لم أسافر بالسيارة لما حصل لي ما حصل.
إن هذا تمن ٍ, والتمني مثـل الحلم فهو هاجس وهو غير العمل والحركة, فالدنيا لا يعيشها المرء بالتمني. والدنيا تدوس بسنابكها العاجزين والقاعدين والضعفاء.
و(لو) في اللغة حرف شرط غير جازم يفيد امتناع الوجوب (جواب الشرط) لامتناع الشرط وهي حرف امتناع لامتناع وهي التي تفتح للشيطان باب الوساوس.
إخوة الإيمان: إن العبد لله, المخلوق له سبحانه, لا يعلم الغيب, حتى الأنبياء والرسل لا يعلمون الغيب إلا بوحي من الله تعالى, فكيف من كان دونهم؟ فلا يعلم أحد ما يقدر له ولا ما يريد الله أن يفعل له أوبه, فالمخلوق لا يطلع على علم الله, ولا يعلم قضاء الله ولا دخل له في إرادة الله ومشيئته. وإن خلاف المقدَر والذي قضى الله فيه قضاءه محال تماما ً. كذلك فإن ما يتمناه الإنسان بخلاف ما يحصل أو يحدث له بعد أن يكون قد تم ووقع محال أيضا . وكلام العبد فيه جهل وغباء, واسترضاء لنفسه بالكذب عليها. وهو ــ في الوقت نفسه ــ تكذيب بقدر الله, إن لم يكن اعتراضا على ما قدر له, ولذلك فإن لو تفتح الأبواب ليعمل الشيطان ما يقدر عليه.
إخوة الإيمان: إن العبد المخلوق لله قاصر وعاجز , وحواسه كلها لا تبعد أكثر من مداها , فهو لا يعلم الغيب ولا يطلع على علم الله, ولا علاقة له فيما يقضي الله ويقدر, ولا دخل له في إرادة الله ولا في مشيئته سبحانه, وما عليه إلا الرضا والتسليم .
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فسأله أن يوصيه وصية جامعة موجزه فقال: لا تتهم الله في قضائه ).
قال أبو الدرداء : إن الله إذا قضى قضاء أحب أن يُرضى به. وقال ابن مسعود: إن الله بقسطه وعدله جعل الروْح والفرح باليقين والرضى, وجعل الهم والحزن في الشك والسخط. فالرضا أن لا يتمنى الإنسان غير ما هو عليه من شدة ورخاء.
إخوة الإيمان: لا يملك المؤمن إلا َّ أن يعمل آخذا بالأسباب, ويجتهد في اختيار وانتقاء ما هو أسلم و أنسب من أسباب, أما إذا وقع القضاء فلا رادَّ له إلا َّ صاحبه وهو الله تعالى, ولا سبيل للمؤمن إلى دفعه بعد وقوعه, وما عليه إلا أن يصبر ويحتسب ويتعظ مما حدث.
إخوة الإيمان: ما يتمناه الإنسان في قوله: لو أني فعلت كذا لكان كذا ينفع ويجدي قبل وقوع القضاء, فهو من الأخذ بالأسباب, وأما بعد وقوعه فإنه لا يفيد, فقد وقع ما وقع وانتهى, ولا قدرة لمن وقع عليه أن يمنعه أو يدفعه؛ لذلك فإن عليه أن يستقبل ما وقع عليه بعزيمة ماضيه ونفس وثابة صابرة, وأن يدَارك كل ما من شأنه أن يخفف عنه وطأة ما حصل, وأثر ما وقع , فإن ما يتمناه الإنسان لا يفيد بعد وقوع القدر بل على العكس من ذلك, إنه يضر صاحبه ويوقعه في بوتقة العجز والضعف والارتباك, والله جل في علاه يلوم على العجز, ويمايز بين المؤمنين والأنبياء, ويحب الكيْس والمواجهة والمقاومة والإقدام.
إخوة الإيمان: من الكياسة أن تأخذ بالأسباب التي من شأنها أن تفيدك في حياتك, وهذه هي التي تفتح عمل الخير, وترتب الأمور , وقد يكون فيها الخلاص والحل , وتخفيف اثر ما يقع من مكروه , والتنبه لما قد يحصل في المستقبل .
إخوة الإيمان: إن القعود والركون إلى الأماني هو العجز والكسل اللذان هما وراء الهم والحزن والجبن وغلبة الأعداء , ومن باب العجز و الكسل يدخل الشيطان يوسوس , ويقود ويغري ويوقع في الشر والضلال, يدخل الشيطان فيتملك الإنسان, ويوجد له المبررات والأعذار على النكث , وقلة الحيلة والضعف والعجز وترك المقاييس الصحيحة ؛ فيمسي أو يصبح ضعيف الإيمان أو لا أيمان له والعياذ بالله .
إخوة الإيمان: العجز والكسل والتعلل والانسياق وراء المعاصي يوقع في الهلاك , فمن يعجز عن الامتثال والطاعة تقوى عليه المعاصي والمنكرات ويقع فريسة عجزه وضعفه في الشر والموبقات التي يقول عندها :[ لو أني] حيث لا ينفعه ندم ولا تمن.
إخوة لا إله إلا الله: إن أهم ما يصيب المسلم نتيجة العجز والكسل, الهم والحزن , وقد استعاذ منهما رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أبي سعيد الخدري قال: )دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم المسجد , فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامه , فقال: يا أبا أمامه , ما لي أراك جالسا في المسجد في غير وقت الصلاة قال : هموم لزمتني وديون يا رسول الله, قال: أفلا أعلمك كلاما إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك, وقضى عنك دينك ؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله قال : قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم و الحزن , وأعوذ بك من العجز والكسل , وأعوذ بك من الجبن والبخل , وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال. قال : ففعلت ذلك , فأذهب الله عز وجل همي , وقضى عني ديني ).
إخوة الإيمان: الندم على الماضي السيئ الذي يذكره صاحبه يسبب له الحزن , والتحسب من المستقبل , والخوف منه مع أنه لم يقع بعد, ُيحدث له الهم والحزن وكلاهما من العجز الذي يقعد صاحبه عن العمل . لذلك فالمضي السيئ لا يدفع بالحزن ولا بالبكاء ولا بالتمني ولا بالتنديد والتشكي , بل بالرضا والحمد والصبر و الاحتساب و الإيمان بقدر الله , والاستعانة به عز وجل في درء ما هو حاصل والإفادة والاتعاظ بما حدث , والتنبه للمستقبل بالعزيمة والإقدام والأخذ بالأسباب , فإذا وقع ما لا قدرة للعبد على دفعه ولا اختيار له فيه فعليه بالصبر والاحتساب والاستعانة بالله, فلا يجزع ولا ييأس حيث لا ينفعه جزع ولا يأس ولا تبرم ولا سخط , بل إن هذا يضعف عزيمة الإنسان ويوهنه, ويحول بينه وبين الأخذ بالأسباب فيما ينفعه في المستقبل أو فيما يقع عليه, فيأخذ للأمور عدتها وأسبابها.
فالمؤمن يؤمن بأن له ربا ً واحدا ً يرضاه في كل شيء, فيما يحب وفيما يكره, ويستسلم له, فإذا أحبه فيما يحب إذا أعطاه ما يريد , ولم يرضه فيما يكره إذا حرمه مما يحب, فهو بذلك لم يرضَ به ربا على الحالين, والله سبحانه لا يرضاه عبدا ً على الإطلاق, و سيوليه نفسه, ويكله إليها, قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ }الحج11
والمؤمن يرضى بقضاء الله إذا اعتـقـل أو سجن أو أوذي أو طرد من العمل أو نفي من الوطن, فيحمد الله ويصبر ويحتسب , ولا ييأس ولا يستكين, بل يقدم على الحياة, ويسارع إلى الجهاد ويديم العطاء ويستمر في الكفاح, فليس من دأب المسلم أن يقبل على الله إذا مسه الخير, ويحجم عن الله إذا مسه شر أو مكروه. قالَ تعَالى : (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ(23) ).( المعارج 19ـ23)
أيها المؤمنون: إنه لا بلاغ إلى ما يريده العبد إلا بالله وحده , فهو الموصل و المعطي, وهو المانع الذي يصرف السوء, وإذا أراد الله لعبده أمرا هيأه له , وما على المؤمن إلا أن يخلص في عبوديته لله وأن يقوم بأعماله مخلصا فيها لله, آخذا بالأسباب التي يغلب على ظنه أنها تحقق له ما يريد.
إخوة الإيمان: إن الله عز وجل لا يمنع العبد من أمر يسعى إليه خيرا ً كان أم شرا ً فالعبد هو الذي يختار الهدى أو الضلال, يختار منهما ما يريد, ولا تتدخل إرادة الله في ذلك , ولا علاقة للمخلوق بإرادة ربه, ولا الخالق سبحانه يستشير عبده عندما يريد أن يوقع به أو يرفع عنه أمرا, ولهذا لا ينبغي للعبد أن يعزي نفسه بقوله: لو أراد الله لي , أو لم يرد الله لي, فلا دخل للعبد بإرادة الله, ولا بعلمه, ولا بمشيئته سبحانه.
إخوة الإيمان: إن العبد يشهد حكمة الله في عزته وقدرته, وفي رحمته وإحسانه , فعقوبته سبحانه تأديب وامتحان لعبده للرجوع إليه والتذلل له فهو سبحانه أعلم بمواقع الفضل والحرمان في عباده, فما ينبغي للعبد أن يبني أفعاله على علم الله الذي لا يعلمه, وأنى له أن يعلمه.
إن الله عز وجل يريد من عبده أن يعمل بجد في هذه الحياة, قال سبحانه:
{وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ }التوبة105
وقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ }الملك15
وقال عز من قائل: (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى (41). ( النجم 39ـ 41 )
أمر الله عبده بالاستقامة, فإرادة الله من عبده أن يفعل, وإرادة الله من نفسه أن يعين عبده, ولا سبيل إلى الفعل إلا َّ بإرادة الله التي لا يملك العبد منها شيئا ً, فلا يلقي أفعاله على إرادة الله فيقول : لو أراد الله لي لفعلت, فهذا هو العجز و الضعف والكسل . وإذا أخذ العبد يبحث عن مبررات وأعذار ليقنع نفسه بعجزه وضعفه, فهو الجبن والبخل فيقع في قهر الضنك وذل العيش وغلبة الأحداث.
قال صلى الله عليه و سلم : » إن الله يلوم على العجز, ولكن عليك بالكيس, فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل «.
يفهم من هذا الحديث أن على العبد أن يفعل وأن يأخذ بالأسباب التي يكون فيها كيسا, فإذا عجز قال: حسبي الله.
إخوة الإيمان: قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم بين رجلين, فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل. فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( رُدوا عليَّ الرجل , فقال : ما قلت؟ قال: قلت: حسبي الله ونعم الوكيل , فقال صلى الله عليه و سلم : إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس, فإذا غلبك أمرٌ فقل: حسبي الله ونعم الوكيل).
إخوة الإيمان: حمل سيدنا إبراهيم عليه السلام دعوة الله إلى قومه, آخذا بكل أسباب النجاح في دعوته, ولم يترك سببا ً يقدر عليه إلا فعله, فلما غلبه قومه وألقوه في النار , قال عندها حسبي الله ونعم الوكيل, فكان الله حسبه وكافيه , وترتب على مقتضاها قوله سبحانه: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ }الأنبياء69
ورسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم الذي هو الأسوة والمثل الذي يقتدى به كان له موقف: بعد انصراف المسلمين من أحد قيل لهم إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم , فتجهز رسول الله ومن معه من المسلمين آخذين بالأسباب , وخرجوا للقاء العدو وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل, فوجدوا القوم قد رحلوا.
وقد سجل لنا القرآن الكريم هذا الموقف, فقال تعالى:
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)} آل عمران
وهنا قد يتساءل أحدكم: أيهما يسبق: التوكل على الله والحسبلة أم الأخذ بالأسباب؟
للإجابة نقول: التمني هاجس, والدعاء عبادة, والإيمان اعتقاد والتوكل من العقيدة,والسعي والأخذ بالأسباب واجب. فالتوكل على الله هو إقرار من المسلم بأن ما أعطي من قوة وقدرة وحواس تمكنه من الحركة والعمل هو من الله تعالى, ولولا ذلك لكان العجز التام, فإقرار المسلم ويقينه بهذا هو من الإيمان ومن العقيدة, ولذلك يَجـِدُّ في العمل ويخلص في السعي, ويبذل الجهد ما وسعه كيساً فطنا ً لماحا ً مستعينا في ذلك بالله عز وجل , فإن غلب الناس الدعاة , وتحجرت المجتمعات, وأوصدت أمامهم الأبواب, ولحق بهم الأذى من كل صوب, زادهم ذلك إيمانا فقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل. فالتوكل والإيمان عند المسلم يسبق الأخذ بالأسباب, ولا معنى للإيمان ولا للتوكل إن جاء بعد الأخذ بالأسباب , فسيدنا إبراهيم ويونس ومحمد وجميع الأنبياء والرسل ومن آمن معهم كانوا مؤمنين متوكلين, فلما دعوا أخذوا بالأسباب, والله تعالى يقول: {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}المائدة11
أيها المؤمنون: إن التوكل والحسبلة بدون القيام بالأعمال والأخذ بالأسباب عجز وتواكل, فالمؤمن متوكل على الله مسبقا, مؤمن به مسبقا ً, وهو مأمور بالعمل , مأمور بالأخذ بالأسباب التي فيها الكيس, ومن الخطأ أن يجعل المسلم التوكل وحده سببا في حصول ما يهدف إليه, لأنَّ فيه تعطيلا للأسباب, وقعودا عن العمل, وفيه العجز والتفريط. وإن الأخذ بالأسباب دون التوكل هو انفراد العبد بقوته والركون إليها, حيث كبرت عليه نفسه ومنعته من الاستعانة بالله والتوكل عليه, وفي هذا يكمن ضعفه, ولله در القائل: إنْ لمْ يَكنْ عَونٌ مِنَ اللهِ لِلفتى, فأولُ مَا يَجنِي عَليهِ اجتهادُهُ وَتحرِّيهِ. فكمال القوة يكون في التوكل على الله مسبقا ً والأخذ بالأسباب تاليا.
وبهذا ينتصر المسلمون بإيمانهم وتوكلهم على ربهم, وأخذهم بأسباب النصر, وإعداد العدة امتثالا لأمر الله عز وجل: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ }الأنفال60
والمزارع عندما يحرث الأرض يكون متوكلا ً على الله, مؤمنا ً بأنه ينزل الغيث , فيبادر إلى حرث الأرض وبذر الحب.
هكذا تكون نظرة المسلمين الكيسين في جميع أفعالهم, فكيف بحملة الدعوة الذين يحرصون على ما ينفعهم عند ربهم من مثابرة وبذل أقصى ما في وسعهم وطاقتهم في الاجتهاد وفي حمل الدعوة مع الإخلاص الخالص لله تبارك وتعالى مبتغين من كل ذلك نوال رضوان الله عز وجل, عاملين بجد لعودة الإسلام إلى الحكم , لتكون كلمة الله هي العليا, وكلمة الذين كفروا السفلى, ولتكون العزة لله ولرسوله وللمؤمنين, {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)} ( الروم )
إخوة الإيمان: ينبغي أن يحرص المسلم خصوصا حامل الدعوة على ما ينفعه عند ربه , بلزوم طاعته وامتثال أمره, واجتناب نهيه, والإكثار من النوافل تقربا إلى الله, فقد جاء في الحديث القدسي قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما يرويه عن ربه: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه, فإن أحببته كنت سمعه الذي يسمع به , وبصره الذي يبصر به, ويده التي يبطش بها , ورجله التي يمشي بها , ولئن استعاذني لأعيذنه , ولئن سألني لأعطينه ). وينبغي على حامل الدعوة أن يستعين بالله وان يديم الصلة به وأن يكثر من الدعاء والتضرع إليه سبحانه, وألا يكل ولا يعجز ولا يضعف ولا يفرط.
وفي ختام القول نضرع إلى الله العلي القدير أن يعلمنا ما ينفعنا , وأن ينفعنا بما علمنا وأن يزيدنا علما نافعا, ونعوذ بالله من شر ما استعاذ منه نبينا محمد r, اللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن , ونعوذ بك من العجز والكسل, ونعوذ بك من الجبن والبخل ونعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال. اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه, اللهم مكن لنا ديننا الذي ارتضيت لنا والذي هو عصمة لنا, اللهم اقر أعيننا برؤية راية العقاب تخفق في مشارق الأرض ومغاربها, اللهم أكرمنا بقيام دولة الخلافة واجعلنا من جنودها الأوفياء المخلصين. اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها, اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها, وخير أيامنا يوم نلقاك فيه وأنت راض عنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أبو عمر