في ذكرى سقوط الأندلس ماذا خسرَ المسلمونَ بسقوطِ الأندلسِ؟ ج2
أما في عهد الولاة بعد ذلك، فلم تعد فيه همة الجهاد كما كانت، وانتشرت العصبية القبلية في الدولة، فهذا قيس وهذا يمن، وانشغلت الدولة الإسلامية في دمشق بحروب الخوارج في المغرب والعراق، فانشغلت عن الأندلس، فلم يعرف المسلمون في الأندلس سمو العيش الإسلامي كما يجب أن يكونوه، حتى جاءهم الإمام عبد الرحمن الداخل صقر قريش، فمصر الأمصار، وأقام الجيش على خطة ولاؤها للدولة، لا للقبيلة، فكان جيشه يفوق المائة ألف فارس غير الرجالة، وأنشأ مصانع السيوف والمنجنيقات، ومن أشهرها مصانع طليطلة وبرديل، وأنشأ أسطولا بحريا قويا وموانئ في طُرْطُوشة وألمَرِيَّة وإِشْبِيلِيَة وبَرْشُلُونَة وغيرها من المواني، وكانت الصوائف في عهده قائمة فلا صيف إلا بجهاد ورباط، حتى تبقى جذوة الجهاد متقدة، وثغور المسلمين منيعة حصينة، لقد أقام دولة لا تتنازع في الدولة العصب على أساس جاهلي كما كان طاغيا إبان دخوله الأندلس.
لقد أقام الداخل للمسلمين دولة في تلك الأصقاع البعيدة في ذلك الزمن، ودحر المتربصين من أعداء الإسلام وجعلهم يرجعون له في صغير أمورهم وكبيرها، كما وقهر الثورات التي ثارت عليه حتى مكن للدولة وأقامها على أساس متين، وكان يُقَسِّم ميزانية الدولة السنوية إلى ثلاثة أقسام: قسم يُنفقه بكامله على الجيش، والقسم الثاني لأمور الدولة العامَّة من مؤنٍ ومعمارٍ ومرتباتٍ ومشاريعَ وغير ذلك، والقسم الأخير كان يدَّخره لنوائب الزمان غير المتوقَّعة. وأنشأ جهازا للحسبة وكرم العلماء، واهتم بالقضاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واهتم ببناء الحصون والقلاع والقناطير، وربط أول الأندلس بآخرها، واهتم بالبناء والعمران، والنباتات، وجعل الأندلس أخت الشام، فكانت الدولة الأموية في الأندلس.
لقد شهدت تلك الدولة أمراء جعلوا تقوى الله أساسا لحكمهم، فسعدت بهم الرعية، ونهضوا بالبلاد نهضة لا تكاد تجد لها نظيرا في ذلك الزمان إلا في عاصمة دولة الخلافة في بغداد، فكانت قرطبة وبغداد منارتا الهدى وقلعتا الإسلام المنيعتين، وحاضرتا الدنيا ومهوى الأفئدة إليهما.
من هؤلاء الأمراء، هشام الرضا، ابن عبد الرحمن الداخل، وقد كان عالِمًا محبًّا للعلم، وقد أحاط نفسه -رحمه الله- بالفقهاء، وكان له أثر عظيم في بلاد الأندلس بنشره اللغة العربية فيها، وقد أخذ ذلك منه مجهودًا وافرًا وعظيمًا، حتى أصبحت اللغة العربية تُدرَّس في معاهد اليهود والنصارى داخل أرض الأندلس.
ثم إن جذوة الجهاد ما زالت متقدة في الدولة الأموية، لم تتوقف فجاء عبد الرحمن الأوسط بعد الحكم بن هشام، فكان يسير بالعدل قال عنه الصفدي: كان عادلاً في الرعية بخلاف أبيه، جوادًا فاضلاً، له نظر في العلوم العقلية، وهو أول من أقام رسوم الإمرة، وامتنع عن التبذُّل للعامَّة، وهو أول من ضرب الدراهم بالأندلس، وبنى سور إِشْبِيلِيَة، وأمر بالزيادة في جامع قُرْطُبَة، وكان يُشَبَّه بالوليد بن عبد الملك، وكان محبًّا للعلماء مقرِّبًا لهم، وكان يُقيم الصلوات بنفسه، ويُصَلِّي إمامًا بهم في أكثر الأوقات… وهو أول مَنْ أدخل كتب الأوائل إلى الأندلس، وعرَّف أهلها بها، وكان حَسَنَ الصورة ذا هيئة، وكان يُكثِر تلاوة القرآن، ويحفظ حديث النبي، وكان يُقالُ لأيامه أيام العروس، وافتتح دولته بهدم فندق الخمر وإظهار البِرِّ، وتملَّى الناس بأيامه وطال عمره، وكان حَسَنَ التدبير في تحصيل الأموال وعمارة البلاد بالعدل، حتى بلغ دخل بلاده في كل سنة ألف ألف دينار، وفي عهده ازدهرت التجارة والعمران، وتقدَّمت وسائل الريِّ في عهده بشكل كبير، وتمَّ رصف الشوارع وإنارتها ليلاً في هذا العمق القديم جدًّا في التاريخ، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تعيش في جهلٍ وظلام دامس، كما أقام القصور المختلفة والحدائق الغنَّاء، وتوسَّع في ناحية المعمار حتى كانت المباني الأندلسية آية في المعمار في عهده، وبلغت البلاد من القوة في عهد الأمير عبد الرحمن هذا أن جاءته الهدايا من القسطنطينية أيضًا.
ثم لما كان انفتاح الدنيا هذا من أوسع أبوابه على أمة الإسلام في الأندلس، آذنت الدولة بالدخول في حالة الضعف بموت عبد الرحمن الأوسط، خصوصا بدخول زرياب الأندلس، وما جلبه معه من فنون الغناء والموسيقى، وملابس الصيف وملابس الشتاء، وفنون الطعام وحكايا الخلفاء وأساطير الأولين، فصادف حالة المجتمع الراغد في العيش، فساهم في تحويل ثقافة المجتمع، وإدخال الرقص والغناء عليه، والتعلق باللهو والمجون، فكان لزاما أن تدخل الدولة في حالة الضعف.
كتبه العبدُ الراغبُ رحمةَ ربِهِ الأستاذ أبو مالك،
مستقيا جُلَّ مادتِهِ من موقعِ قصةِ الإسلام.