سقوط الأندلس دروس وعبر الحلقة الرابعة
الحمد لله مالك الملك، وخالق الخلق، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير. أما بعد:
أيها الأحبة: وكان الأجدر بمغنيهم أن يقول : قيادي قد تملكه الجهاد، ونشر دعوة الإسلام، وفعلا ذهبت الأندلس، وراحت وعليها السلام، لأن حياتهم كانت عابثة مليئة بالأغاني واللهو والمجون والخلاعة. نعم وعندما قصد الإفرنج بلنسية لغزوها في عام ستة وخمسين وأربعمائة هجرية، خرج أهلها للقائهم بلباس الزينة. جاء العدو ليقاتل، ويخرج أهل بلنسية للقائه بثياب الزينة، فكانت الوقعة التي هزم فيها المسلمون هزيمة منكرة حتى قال الشاعر:
لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستموا | حلـل الحريـر عليكموا ألوانـا |
ما كان أقبحهـم وأحسنكم بها | لـو لم يكن ببطرنـة ما كانـا |
حال المسلمين في الأندلس حال مؤسفة ومحزنة، لهو وعبث وضياع وأغان إلا من عصم الله سبحانه وتعالى. وعندما أغرق المسلمون في الشهوات وفي الملذات، وفي المعاصي كان ما كان. هذا سبب واضح وجلي، لنا وقفة مع هذا السبب، سنعود إليه إن شاء الله تعالى.
أيها الأحبة: السبب الرابع من أسباب سقوط الأندلس هو إلغاء الخلافة وبداية عهد الطوائف. عهد الطوائف عهد التفكك، وعهد من السنوات الصعبة من الفرقة والتنافس، والتشتت والضياع. بدأ عندما أعلن أبو الحزم جهور بن محمد إلغاء الخلافة، ويكفي أن نعلم أن دول الطوائف في فترة من الفترات بلغت سبعا وعشرين طائفة، أو إمارة أو دويلة تتنافس فيما بينها، بدل أن كانت الأندلس دولة واحدة تحولت إلى سبع وعشرين دولة. حتى قال الشاعر:
ألقاب مملكة في غير موضعـها | كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد |
وهذه الطوائف كانت سببا رئيسا في هذا الجانب؛ ولذلك يقول ابن حزم يصف ملك الطوائف، وما جر على المسلمين، وابن حزم رحمه الله من علماء الأندلس يقول: “والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية لأمورهم، لبادروا إليها من التنازلات، التي قدموها فنحن نراهم يستمدون النصارى، فيمكنونهم من حرب المسلمين لعنهم الله جميعا”. ويقول ابن حزم: “وسلط عليهم سيفا من سيوفه”!
أيها الأحبة: السبب الخامس من الأسباب التي أودت بالأندلس هو الاختلاف بين المسلمين. والخلاف شر. الخلاف لا يأتي بخير أبدا، لما زاد الخلاف بين المسلمين، واستعدى بعضهم على بعض حلت الكارثة، حتى إنهم بدؤوا يستعدون بعضهم ضد بعض عن طريق ملوك النصارى. يأتي الرجل من ملوك المسلمين، ويتفق ويحالف الملك النصراني ضد أخيه، وهذا أمر محزن جدا، يتقاتلون ويتناحرون على السلطة وعلى الشهوات، واستمر الخلاف بين المسلمين وذهبت الفرقة بقوتهم حتى قال شاعرهم:
ما بال شـمل المسلمين مبدد | فيها وشمل الضـد غيـر مبدد |
ماذا اعتذاركـم غدا لنبيكـم | وطريق هذا العذر غير ممـهد |
إن قال لم فرطتمو في أمـتي | وتركتمـوهـم للعدو المعتدي |
تالله لو أن العقوبـة لم تخف | لكفى الحياء من وجه ذاك السيد |
يقول: ألا تستحيون من الله سبحانه وتعالى؟ ألا تستحيون عندما تقابلونه؟ وغدا سيسألكم رسول الله عن تفريطكم بأمتكم؛ ولذلك استمر الخلاف، حتى كان بنو وطاس ينتمون إلى بطن من بطون بني مرين، وينافسونهم في طلب الرياسة والملك، فلما اشتدت وطأتهم على السلطان عبد الحق، بطش بهم وقتل معظم رؤسائهم ونجا بعضهم، وتفرقوا في مختلف الأنحاء، وأسلم عبد الحق زمام دولته إلى اليهود، فبغوا وعاثوا في الدولة كعادتهم. تصوروا: كيف طرد وزراءه، وطرد أبناء عمه، وطرد المسلمين وقتلهم، وسلم الدولة لمن؟ سلمها لليهود، وبعد هذا نتساءل: لماذا سقطت الأندلس!؟
أيها الأحبة: السبب السادس من أسباب سقوط الأندلس هو تخلي بعض العلماء عن القيام بواجبهم. أيضا، قفوا معنا مع هذا السبب المهم من أسباب سقوط الأندلس: إذا تخلى العلماء عن القيام بواجبهم، فعلى الأمة العفاء، إذا تشاغل العلماء، إذا تكاسل العلماء، إذا لهى العلماء حل بالأمة الدمار، وهكذا كانت الأندلس، تشاغل كثير من العلماء بشؤونهم الخاصة عن شؤون أمتهم. يقول المقري: “من جملة تغافل أهل الأندلس أن العدو أطل عليهم، يجوس خلال الديار، ويقطع كل يوم طرفا ويبيد أمة، والباقون منهم صموت عن ذكر إخوانهم، لهاة عن بثهم ما يسمع بمسجد من مساجدهم مذكر لهم أو داع، فضلا عن نافر إليهم أو ماش، يقول حتى في المساجد، ما كان العلماء يذكرون الولايات التي تسقط من ولايات المسلمين”.
أيها الأحبة: ويقول آخر: “وسبب انصراف عدد من العلماء بدراساتهم إلى العناية المبالغة بالفقه المذهبي وفروعه”. ويقول: من أسباب سقوط الأندلس: أن عددا من علماء المغرب، وما يحدث بالمغرب ينعكس على الأندلس، انشغلوا عن أمتهم بالخلافات، انشغلوا بالخلافات الفرعية. أتعلمون عندما دخل الفرنسيون إلى سوريا ماذا كان يحدث؟ وعلى ماذا كان العلماء يختلفون؟! هل كانوا يختلفون في قضية محاربة الفرنسيين؟ لا. بل كانوا يختلفون في مسألة: هل يجوز أن يتزوج الشافعي من حنفية؟ أو هل يأخذ الحنفي شافعية، كأنها من أهل الكتاب، والفرنسيون يبسطون نفوذهم على الشام!
وفي الأندلس, ضاعت الأندلس لما انشغل كثير من العلماء كما يقول هذا المؤرخ في الخلافات والقضايا الفرعية عن مشكلات أمتهم. “سافرت إلى بعض بلاد المسلمين، والتقيت ببعض علمائهم، وهذا مما رأيت، الأمة تجدها في ذلك البلد تعاني معاناة مرة من واقع سياسي مؤلم، والعلماء قد انشغلوا في قضايا فرعية”.
أيها الأحبة: خذوا مثلا، مثلا قريبا في بلد من البلاد الإسلامية. كان المسلمون يقتلون ويعذبون كما عذب أهل الأندلس، والشيخ يجلس في درسه – وهو من أكبر مشايخ هذا البلد وعلى بعد أمتار منه تحدث مذابح جماعية للمسلمين – وهو يتحدث في مسألة: ما إذا نبت للمرأة لحية، فهل يجوز أن تحلقها أم لا؟ هذه قضية واقعة، ومتصلة السند. إذا تساهل العلماء، وتخلوا عن واجبهم حل بالأمة النكبة والدمار، وهكذا أقول: تخلى بعض علماء الأندلس، عن واجبهم فحل ما حل، واسمعوا ماذا يقول ابن حزم وهو ممن قام بواجبه – رحمه الله – يقول: “ولا يغرنكم الفساق والمنتسبون إلى الفقه، اللابسون جلود الضأن على قلوب السباع، المزينون لأهل الشر شرهم، الناصرون لهم على فسقهم”. سبحان الله! ما أدق هذا التوصيف من ابن حزم رحمه الله تعالى!
أيها الأحبة:
نشكركم ونواصل حديثنا معكم في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أخوكم محمد أحمد النادي.