Take a fresh look at your lifestyle.

نداءات القرآن الكريم للذين آمنوا ح6 النداء الرابع فرض شريعة القصاص في القتلى، وإباحة قبول الدية من أولياء الدم

 

 

(يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر‌ بالحر‌ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعر‌وف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ر‌بكم ور‌حمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم) (البقرة 178).

الحمد لله الذي أنزل القرآن رحمة للعالمين، ومنارا للسالكين، ومنهاجا للمؤمنين، وحجة على الخلق أجمعين. والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله وصحبه الطيبين الطاهرين، والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين، واجعلنا اللهم معهم، واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

أيها المؤمنون:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: في هذه الحلقة نصغي وإياكم إلى نداء من نداءات الحق جل وعلا للذين آمنوا، ومع النداء الرابع نتناول فيه الآية الكريمة الثامنة والسبعين بعد المائة من سورة البقرة التي يقول فيها الله تبارك وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر‌ بالحر‌ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعر‌وف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ر‌بكم ور‌حمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم). نقول وبالله التوفيق:

يقول صاحب الظلال سيد قطب رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: “النداء للذين آمنوا .. بهذه الصفة التي تقتضي التلقي من الله الذي آمنوا به، في تشريع القصاص. وهو يناديهم لينبئهم أن الله فرض عليهم شريعة القصاص في القتلى، بالتفصيل الذي جاء في الآية الأولى. وفي الآية الثانية يبين حكمة هذه الشريعة، ويوقظ فيهم التعقل والتدبر لهذه الحكمة، كما يستجيش في قلوبهم شعور التقوى وهو صمام الأمن في مجال القتلى والقصاص. وهذه الشريعة التي تبينها الآية: أنه عند القصاص للقتلى – في حالة العمد – بقتل الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى. “فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان” .. وهذا العفو يكون بقبول الدية من أولياء الدم بدلا من قتل الجاني. ومتى قبل ولي الدم هذا ورضيه، فيجب إذن أن يطلبه بالمعروف والرضا والمودة. ويجب على القاتل أو وليه أن يؤديه بإحسان وإجمال وإكمال. تحقيقا لصفاء القلوب، وشفاء لجراح النفوس، وتقوية لأواصر الأخوة بين البقية الأحياء.

وقد امتن الله على الذين آمنوا بشريعة الدية هذه بما فيها من تخفيف ورحمة: “ذلك تخفيف من ربكم ورحمة” .. ولم يكن هذا التشريع مباحا لبني إسرائيل في التوراة. إنما شرع للأمة المسلمة استبقاء للأرواح عند التراضي والصفاء. “فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم” .. وفوق العذاب الذي يتوعده به في الآخرة .. يتعين قتله، ولا تقبل منه الدية؛ لأن الاعتداء بعد التراضي والقبول، نكث للعهد، وإهدار للتراضي، وإثارة للشحناء بعد صفاء القلوب، ومتى قبل ولي الدم الدية، فلا يجوز له أن يعود فينتقم ويعتدي. ومن ثم ندرك سعة آفاق الإسلام وبصره بحوافز النفس البشرية عند التشريع لها ومعرفته بما فطرت عليه من النوازع .. إن الغضب للدم فطرة وطبيعة. فالإسلام يلبيها بتقرير شريعة القصاص. فالعدل الجازم هو الذي يكسر شرة النفوس، ويفثأ حنق الصدور، ويردع الجاني كذلك عن التمادي، ولكن الإسلام في الوقت ذاته يحبب في العفو، ويفتح له الطريق، ويرسم له الحدود، فتكون الدعوة إليه بعد تقرير القصاص دعوة إلى التسامي في حدود التطوع، لا فرضا يكبت فطرة الإنسان ويحملها ما لا تطيق، ثم يكمل السياق الحديث عن فريضة القصاص بما يكشف عن حكمتها العميقة وأهدافها الأخيرة: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون). إنه ليس الانتقام، وليس إرواء الأحقاد. إنما هو أجل من ذلك وأعلى. إنه الحياة، وفي سبيل الحياة، بل هو في ذاته حياة .. ثم إنه للتعقل والتدبر في حكمة الفريضة، ولاستحياء القلوب واستجاشتها لتقوى الله .. والحياة التي في القصاص تنبثق من كف الجناة عن الاعتداء ساعة الابتداء. فالذي يوقن أنه يدفع حياته ثمنا لحياة من يقتل. جدير به أن يتروى ويفكر ويتردد. كما تنبثق من شفاء صدور أولياء الدم عند وقوع القتل بالفعل. شفائها من الحقد والرغبة في الثأر… وفي القصاص حياة على معناها الأشمل الأعم. فالاعتداء على حياة فرد اعتداء على الحياة كلها، واعتداء على كل إنسان حي، يشترك مع القتيل في سمة الحياة. فإذا كف القصاص الجاني عن إزهاق حياة واحدة، فقد كفه عن الاعتداء على الحياة كلها. وكان في هذا الكف حياة. حياة مطلقة. لا حياة فرد، ولا حياة أسرة، ولا حياة جماعة، بل حياة .. ثم وهو الأهم والعامل المؤثر الأول في حفظ الحياة استجاشة شعور التدبر لحكمة الله، ولتقواه “لعلكم تتقون”. هذا هو الرباط الذي يعقل النفوس عن الاعتداء. الاعتداء بالقتل ابتداء، والاعتداء في الثأر أخيرا .. التقوى .. حساسية القلب وشعوره بالخوف من الله وتحرجه من غضبه وتطلبه لرضاه. إنه بغير هذا الرباط لا تقوم شريعة، ولا يفلح قانون، ولا يتحرج متحرج، ولا تكفي التنظيمات الخاوية من الروح والحساسية والخوف والطمع في قوة أكبر من قوة الإنسان! وهذا ما يفسر لنا ندرة عدد الجرائم التي أقيمت فيها الحدود على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – وعهد الخلفاء، ومعظمها كان مصحوبا باعتراف الجاني نفسه طائعا مختارا .. لقد كانت هنالك التقوى .. كانت هي الحارس اليقظ في داخل الضمائر، وفي حنايا القلوب، تكفها عن مواضع الحدود .. إلى جانب الشريعة النيرة البصيرة بخفايا الفطرة ومكنونات القلوب .. وكان هناك ذلك التكامل بين التنظيمات والشرائع من ناحية، والتوجيهات والعبادات من ناحية أخرى، تتعاون جميعها على إنشاء مجتمع سليم التصور سليم الشعور. نظيف الحركة نظيف السلوك. لأنها تقيم محكمتها الأولى في داخل الضمير! حتى إذا جمحت السورة البهيمية في حين من الأحيان، وسقط الإنسان سقطة، وكان ذلك حيث لا تراقبه عين ولا تتناوله يد القانون، تحول هذا الإيمان نفسا لوامة عنيفة، ووخزا لاذعا للضمير، وخيالا مروعا، لا يرتاح معه صاحبه حتى يعترف بذنبه أمام القانون، ويعرض نفسه للعقوبة الشديدة، ويتحملها مطمئنا مرتاحا، تفاديا من سخط الله، وعقوبة الآخرة”. إنها التقوى .. إنها التقوى” .. (انتهى الاقتباس).

أيها المؤمنون:

نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، موعدنا معكم في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى، فإلى ذلك الحين وإلى أن نلقاكم ودائما، نترككم في عناية الله وحفظه وأمنه، سائلين المولى تبارك وتعالى أن يجعل القرآن ‏العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا همومنا وغمومنا، اللهم ذكرنا منه ما نسينا وعلمنا منه ما جهلنا ‏وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا واجعله حجة لنا لا علينا اللهم آمين آمين يا رب العالمين

 

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمد احمد النادي