Take a fresh look at your lifestyle.

أفول نجم الهيمنة الأمريكية – د.محمد جيلاني – محاضرة في قاعة البث الحي

    يقول برجنسكي في كتابه (الخيار) : ( ان اهتمام أمريكا الشديد بأمن أمريكا و تركيزها الضيق على الارهاب، و تجاهلها المستمر لهموم العالم و الأنسانية لن يخدم أمن أمريكا و لن يمكن أمريكا من قيادة العالم. و أذا لم تتمكن من تحقيق تناغم بين قوتها العملاقة و العلاقات الأجتماعية فأنها ستجد نفسها في عزلة أمام فوضى عالمية متنامية) .

    لقد دق برجنسكي ناقوس خطر يحذر أمريكا من فقدان مقدرتها على قيادة العالم ان هي استمرت في التعامل مع العالم بأسلوب الهيمنة بدلا من القيادة السياسية و الفكرية. و يرى برجنسكي أنه لا يزال بمقدور أمريكا أن تقود العالم بدلا من أن تهيمن عليه، و أنها بذلك تضمن مصالحها الحيوية و الاستراتيجية الى أمد بعيد. و يرى برجنسكي أن أمريكا ستكون أقدر على القيادة اذا هي ضمنت تحالفا حقيقيا مع أوروبا في مواجهة التحديات التي لخصها بخمسة تحديات: انعدام الأمن القومي، انعدام النظام العالمي، سوء أدارة الأحلاف، العولمة، و هيمنة الديموقراطية.

 

    سوف أتعرض في هذه الكلمة الى وجهة نظر برجنسكي حول التحديات التي تواجه أمريكا و تؤثر على العالم بمجمله. كما سأناقش الفكرة الرئيسة و هي ( هل العالم مخير بين أحد أمرين: أما الهيمنة أو القيادة الأمريكية ) أم أن أمريكا ستفقد الهيمنة و القيادة معا. أن برجنسكي يرى أن العالم مهيأ للخروج على الطاعة الأمريكية، و لكنه يفتقر الى المبدأ (الأيدولوجيا) الذي يجمع شعوب العالم على صعيد واحد أمام الهيمنة الأمريكية.

 

    و الواقع أن كتاب برجنسكي يقدم شهادة مقنعة بأن أمريكا قد وصلت بعد خمسين عام من تربعها على عرش الدولة الأولى في العالم الى حالة قد لا تسمح باستمرار قيادتها للعالم قيادة فعلية. و قد قال في كتابه الفرصة الثانية و الذي صدر عام 2007 ما نصه ( انه بدون دور أخلاقي فان أمريكا ستفقد الشرعية في قيادتها للعالم ) و يقول ( ان ما يدعوني للقلق هو أنه سيكون من الصعب على أمريكا أن تمارس قيادتها للعالم ) و يصل الى التنبؤ بأن ( مرحلة التفوق الأمريكي قد لا تدوم طويلا بالرغم من غياب البديل ) – كتاب الفرصة الثانية ص: 42.

    و لكن حالة أمريكا هذه  ليست ناجمة عن خطأ استراتيجي يمكن العدول عنه و تصحيح مساره كما يظن برجنسكي. بل أن ما وصلت أليه أمريكا هو محصلة سياسات انتهجتها على مدار الخمسين سنة الماضية، و أكثر من ذلك هي نتيجة طبيعية لهيمنة الرأسمالية على العقلية الأمريكية، و تمكن الشركات الرأسمالية العظمى من السيطرة على مجريات السياسة الأمريكية.

 

    ان الصعوبات و التحديات التي تواجه أمريكا في استمرار قيادتها للعالم هي حقيقية و تزداد خطورة و جدية كلما تأخرالعلاج و استفحل المرض.  و الواقع أن أمريكا خلال العشرين سنة الماضية بدلا من أن تتقدم في مقدرتها على مواجهة التحديات فأنها استمرت بالتراجع. و قد أورد برجنسكي في كتاب الفرصة الثانية ما يشبه التقييم لأداء أمريكا خلال عهد بوش الأب و كلنتون و بوش الأبن. حيث نظر الى أداء امريكا فيما يتعلق بثمان تحديات رئيسة هي: حلف الأطلسي، أرث الاتحاد السوفياتي، الشرق الأقصى، الشرق الأوسط، انتشار الأسلحة النووية، حفط السلام، البيئة، والفقر. و على طريقة تقييم الامتحانات فقد حصلت فترة بوش الأب  على علامة (B) و كلنتون حصل على (C) و بوش الأبن حصل على (F). أي أن مستوى أمريكا في مقدرتها على مواجهة التحديات آخذ بالانحدار.

 

    و المدقق في الواقع السياسي و الاقتصادي و الأيدولوجي لأمريكا يجد أنه لا يمكن لها أن تعود لقيادة العالم، وأن عجلة التاريخ لا تعود للوراء. و في الوقت نفسه لا يمكن لأمريكا أن تستمر بالهيمنة على شؤون العالم. و يجب على الساسة و المفكرين في العالم أن يبحثوا و بكل جدية عن المبدأ الأيدولوجي الذي ادعى برجنسكي أنه غير موجود، و الذي يوفر للأنسانية قيادة فكرية سياسية تحقق العدل الذي يرنو اليه البشر.

 

    أما الواقع السياسي فأن أمريكا و بعد أن أنتهت الحرب الباردة لصالحها و لو في الظاهر، لم تتمكن من انتهاج استراتيجة تمكنها من قيادة العالم الجديد. بل استمرت في الاعتماد على وجود عدو استراتيجي تناطحه و تستغل وجوده لفرض هيمنتها و عرض قيادتها. و قد اتجهت أنظارها نحو الأسلام و العالم الاسلامي بالرغم أن الأسلام و العالم الأسلامي في هذا الوقت لا يصلحا لهذا الغرض. و قد ساعدت فكرة صراع الحضارات التي أطلقها صموئيل هنتنكتون على تغذية هذا الاتجاه. و قد غرقت أمريكا في هذا التوجه حتى وصلت الى مستنقع العراق و أفغانستان. و استمرت أمريكا بالاعتماد على نفس الاستراتيجيات و الاساليب التي اعتمدتها في صراعها السابق مع الاتحاد السوفياتي و التي ظهرت في تركيزها على أسلحة الدمار الشامل لدى من تريد أن تتخذه عدوا، و ان كان لا يملكها أو ليست لديه القدرة على تهديد مصالحها أو مصالح حلفائها. و قد أدت هذه الاستراتيجية الهشة الى عجز أمريكا من فرض هيمنتها أو قيادتها على أوروبا التي ما برحت أمريكا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تعمل على ابقائها تحت مظلتها.

 

    و من ذلك أيضا ما طرحته ادارة كلينتون عام 1997 من الحاجة الى مشروع مارشال جديد في أوروبا مذكرة بمشروع مارشال الذي ضمنت به أمريكا منذ عام 1947 هيمنة على أوروبا الغربية. الا أن الظروف السياسية و الاقتصادية كانت قد تغيرت في اوروبا بشكل جذري ما جعل خطة أمريكا هذه كمن يدخل سباق سيارات عام 1997 بعربة صنعت عام 1947.

 

    أما الارهاب فهو أسلوب جديد يتلائم مع التركيز على العالم الاسلامي. الا أن امكانية استعماله لبسط النفوذ و الهيمنة على أوروبا و اليابان و ابقاء الصين و روسيا ضمن مرمى السياسة الامريكية فقد أثبت فشله العملي. اضافة الى أن مدى هذا الاسلوب قصير و لا يصلح لتشكيل استراتيجية بعيدة المدى. علاوة على ذلك فأن الدول و التكتلات التي تنافس أمريكا عمليا مثل اوروبا و بريطانيا و روسيا يمكنها أن تستعمل اسلوب الارهاب لتحقيق غاياتها.

 

    و بالتالي فان أمريكا قد انتهجت سياسات و تبنت استراتيجيات و أساليب خلال عقدين من الزمن لم تمكنها من احكام قبضتها على العالم. و في الوقت نفسه فقد تمكنت أوروبا من بناء اتحاد قوي، و اقتصاد مكين مدعوم بعملة اليورو الذي تفوق على الدولار، و هي تسعى الى بناء قوة عسكرية موازية أو بديلة لقوة الناتو. كذلك تمكنت روسيا من الخروج من عنق الزجاجة الذي فرضته على نفسها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. كما أصبحت الصين قوة اقتصادية عظمى و بدأت شركاتها تنافس الشركات الامريكية في أهم الصناعات العالمية كالنفط و الغاز.

 

    و الأهم من ذلك كله أنه ليس من السهل على أمريكا العودة للوراء لأعادة بناء سياساتها و استراتيجياتها. و جل ما تستطيع فعله الآن كما ظهر من أجندة الرئيس المنتخب الجديد هو ازالة آثار بعض السياسات الخاطئة كالانسحاب الجزئي من العراق و اعادة نشر القوات من العراق الى أفغانستان و تحسين مظهر أمريكا لدى العالم. أي أن ما كان يخشاه برجنسكي قد بات أمرا واقعا.

 

    أما الواقع الاقتصادي فقد وقعت أمريكا، كما في الناحية السياسية، فريسة لسياسات و استراتيجيات تم اعتمادها بعد الحرب العالمية الثانية و ابان الحرب الباردة. و لم تقم أمريكا بتبني سياسات جديدة بشكل مدروس بعد انتهاء الحرب الباردة و زوال آثار الحرب العالمية الثانية. فها هي تتحدث عن مشروع يشبه مشروع مارشال في الوقت الذي كان فيه اقتصاد الدول الأوروبية ينمو بشكل يهدد اقتصاد أمريكا نفسها. و استمرت بالاعتماد على صندوق النقد و البنك الدوليين الذين أنشئا لتتمكن أمريكا من ضبط انتقال الاموال بما يخدم مصلحتها بعد انتهاء الحرب الثانية. ثم عمدت الى بناء اقتصاد وهمي افتراضي لتفرض ضغوطا هائلة على الاقتصاد السوفياتي ابان الحرب الباردة. و قد أصبحت هذه السياسات كلها عبئأ على أمريكا نفسها و على مقدرتها على مواجهة التحديات الاقتصادية ليس في العالم فقط بل و في أمريكا نفسها كما حصل من الانهيار المتتابع للنظام المالي في أمريكا و حول العالم.

 

    و الحاصل أن مقدرة أمريكا على الاستمرار باستعمال الدولار للتحكم باقتصاديات العالم لم تعد ميسرة كما كانت في النصف الثاني من القرن العشرين. كما أن الاقتصاد الوهمي الافتراضي قد انكشف عواره و بدأ بالانكماش الشديد. و غدا الطلب شديدا على العودة الى نظام الذهب المالي. و الأهم من ذلك كله أن أمريكا خلال العقدين الماضيين فقدت الكثير من آليات الانتاج الصناعي لديها و استعاضت عنها بآليات الانتاج المالي و الذي كانت قد فصلته عن الانتاج الصناعي.

 

    و المهم في كل ذلك أن الواقع الاقتصادي الذي وصلت اليه أمريكا ليس نتاج فشل خطط أو أساليب يتم معالجتها بذكاء و حنكة ادارة جديدة. بل هو نتاج الاعتماد على سياسات و استراتيجيات بعيدة المدى ما يجعل الاصلاح الاقتصادي أكثر من صعب. فقد خسرت أميركا أكثر من عشرين عاما في السياسة و الاستراتيجية الاقتصادية. و بالتالي تكون أمريكا قد خسرت أهم سلاح لديها بعد انتهاء الحرب الباردة  في سعيها لقيادة العالم أو الهيمنة عليه.

 

    أما الواقع الايدولوجي و الذي كان واحدا من أهم عناصر قوة أمريكا في السابق فقد بدأ يفقد بريقه و مصداقيته في العالم كما في داخل أمريكا. فقد رفعت أمريكا في ما بعد الحرب العالمية الثانية و ابان الحرب  الباردة شعارات الحرية و الديموقراطية و الاستقلال و حقوق الانسان. و قد دعمت كثيرا من حركات التحرر في العالم و جعلت من الحرية أساسا في سعيها للهيمنة على العالم و قيادة أموره. و قد ساعدها على ذلك وجود الاتحاد السوفياتي و ما شاعت عنه من انتهاك لحقوق الانسان و قمع الحريات.  كما أن وجود الحرب الباردة كان قد فرض على أمريكا العمل بشكل دائم على أخفاء التاقضات الشديدة بين الديمقراطية من جهة  و الرأسمالية من جهة أخرى.

 

    و حين انتهت الحرب الباردة و عادت روسيا نفسها لحظيرة الدول الرأسمالية انكشف بعض ما كان خافيا على كثير من الناس و هي أن أمريكا كانت و لا زالت ترعى كثيرا من النظم القمعية في العالم. ثم جاءت ثالثة الأثافي في غوانتانامو و أبي غريب. و تبعها اعتراف كولن باول و أخيرا بوش بتلفيق قضية أسلحة الدمار الشامل في العراق و التي أدت الى حرب لا تزال مستمرة. و قد أظهرت الحرب التناقض الشديد بين ما تدعيه أمريكا من حرص كاذب على الديموقراطية والحرية و حرص شديد على المصالح الاقتصادية كالنفظ.

 

    ثم ان سياسة الارهاب التي اتبعتها أمريكا أدت الى تغيير جذري في النظرة للحرية أدت الى اعتبار الحرية ثانية بعد الأمن من الناحية الايدولوجية. و قد علق تيد كندي ابان انتخابات الرئاسة عام 2004 بأنه سيكون من الصعب بمكان تلافي آثار هذ الانحراف اذا استمرت ادارة بوش بتقييد الحريات بحجة الحفاظ على الأمن.

 

    ثم ان الازمة المالية التي عصفت بأمريكا مؤخرا أدت الى الحديث عن تغير جذري في الناحية الاقتصادية من الايدولوجية الامريكية خاصة فيما يتعلق بالملكية الفردية و اقتصاد السوق و جهاز الثمن و امكانية الاقتصاد على أصلاح نفسه بنفسه.

 

    و الحاصل أن الأساس الفكري للأيدولوجية في أمريكا قد أصابه خلل سواء فيما يتعلق بالحرية الشخصية أو حرية التملك. و مثل هذا الخلل في أساس النظام لا يمكن اصلاح الآثار الناجمة عنه الا بأصلاح الخلل نفسه. الا أن اصلاح الخلل في أساس النظام أصعب بكثير من احداث الخلل ابتداءا.

 

    ومن هنا فان التحديات التي تواجه أمريكا في امكانية قيادة العالم أو الهيمنة عليه أكبر بكثير مما يتوقعه الكثير. و لعلنا نشهد قريبا انهيار العملاق بعد تنحيه عن عجلة القيادة. وقد بدأ كثير من المفكرين بالتسابق لتحديد زمن الانهيار هذا. و كان آخرها مقال كاتب روسي تنبأ بالنهيار العظيم عام 2010.

 

    أما ادعاء برجنسكي بأن العالم يخلو من أيدولوجية قادرة على قيادة العالم في حال انهيار القيادة الامريكية فان هذا الادعاء ليس الا محاولة لأخفاء الشمس بغربال. فقد شهد أعداء الاسلام قبل أولياءه بأن الأسلام قادر على قيادة العالم و أخراجه من ضيق الدنيا و شظفها الى سعة الدنيا و الآخرة و من جور الرأسماية و الديموقراطية الى عدل الاسلام و من عبودية أمريكا و طواغيت الأرض الى عبودية رب الناس. وقد بدأ بزوغ فجر الخلافة الراشدة على منهاج النبوة. ولا يجهلها أو يجحدها الا حاقد أو أعمى.  و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون.