Take a fresh look at your lifestyle.

نداءات القرآن الكريم للذين آمنوا ح14 النداء التاسع الأمر بالإنفاق من الكسب الحلال الطيب

 

 

(يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخر‌جنا لكم من الأر‌ض، ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه، واعلموا أن الله غني حميد) (البقرة 267).

الحمد لله الذي أنزل القرآن رحمة للعالمين، ومنارا للسالكين، ومنهاجا للمؤمنين، وحجة على الخلق أجمعين. والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله وصحبه الطيبين الطاهرين، والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين، واجعلنا اللهم معهم، واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

أيها المؤمنون:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: في هذه الحلقة نصغي وإياكم إلى نداء من نداءات الحق جل وعلا للذين آمنوا، ومع النداء التاسع نتناول فيه الآية الكريمة السابعة والستين بعد المائتين من سورة البقرة التي يقول فيها الله تبارك وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخر‌جنا لكم من الأر‌ض، ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه، واعلموا أن الله غني حميد). نقول وبالله التوفيق:

يقول صاحب الظلال سيد قطب رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: “ويمضي السياق خطوة أخرى في دستور الصدقة. ليبين نوعها وطريقتها، بعد ما بين آدابها وثمارها.. إن الأسس التي تكشفت النصوص السابقة عن أن الصدقة تقوم عليها وتنبعث منها لتقتضي أن يكون الجود بأفضل الموجود، فلا تكون بالدون والرديء الذي يعافه صاحبه ولو قدم إليه مثله في صفقة ما قبله إلا أن ينقص من قيمته. فالله أغنى عن تقبل الرديء الخبيث! وهو نداء عام للذين آمنوا – في كل وقت وفي كل جيل – يشمل جميع الأموال التي تصل إلى أيديهم. تشمل ما كسبته أيديهم من حلال طيب، وما أخرجه الله لهم من الأرض من زرع وغير زرع مما يخرج من الأرض ويشمل المعادن والبترول. ومن ثم يستوعب النص جميع أنواع المال، ما كان معهودا على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – وما يستجد. فالنص شامل جامع لا يفلت منه مال مستحدث في أي زمان. وكله مما يوجب النص فيه الزكاة. أما المقادير فقد بينتها السنة في أنواع الأموال التي كانت معروفة حينذاك. وعليها يقاس وبها يلحق ما يجد من أنواع الأموال.

أيها المؤمنون:

وقد وردت الروايات بسبب لنزول هذه الآية ابتداء، لا بأس من ذكره، لاستحضار حقيقة الحياة التي كان القرآن يواجهها، وحقيقة الجهد الذي بذله لتهذيب النفوس ورفعها إلى مستواه .. روى ابن جرير بإسناده عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: “نزلت في الأنصار. كانت الأنصار إذا كانت أيام جذاذ النخل أي قطع ثماره، أخرجت من حيطانها البسر أي أخرجت من بساتينها التمر إذا لون ولم ينضج. فعلقوه على حبل بين الاسطوانتين أي بين العمودين في مسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيأكل فقراء المهاجرين منه. فيعمد الرجل منهم إلى الحشف أي أردأ التمر. فيدخله مع قناء البسر، يظن أن ذلك جائز. فأنزل الله فيمن فعل ذلك: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون)… وكذلك رواه الحاكم عن البراء وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم، ولم يخرجاه. ورواه ابن أبي حاتم بإسناده عن طريق آخر عن البراء – رضي الله عنه – قال: نزلت فينا. كنا أصحاب نخل، فكان الرجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته، فيأتي رجل بالقنو، فيعلقه في المسجد. وكان أهل الصفة ليس لهم طعام. فكان أحدهم إذا جاع جاء فضرب بعصاه، فسقط منه البسر والتمر فيأكل، وكان أناس ممن لا يرغبون في الخير يأتي بالقنو الحشف والشيص أي التمر الرديء. فيأتي بالقنو قد انكسر فيعلقه، فنزلت: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه). قال: لو أن أحدكم أهدي له مثل ما أعطى ما أخذه إلا على إغماض وحياء. فكنا بعد ذلك يجيء الرجل منا بصالح ما عنده.

والروايتان قريبتان. وكلتاهما تشير إلى حالة واقعة في المدينة وترينا صفحة تقابل الصفحة الأخرى التي خطها الأنصار في تاريخ البذل السمح والعطاء الفياض. وترينا أن الجماعة الواحدة تكون فيها النماذج العجيبة السامقة، والنماذج الأخرى التي تحتاج إلى تربية وتهذيب وتوجيه لتتجه إلى الكمال! كما احتاج بعض الأنصار إلى النهي عن القصد إلى الرديء من أموالهم، الذي لا يقبلونه عادة في هدية إلا حياء من رده ولا في صفقة إلا بإغماض فيه أي: نقص في القيمة! بينما كانوا يقدمونه هم لله! ومن ثم جاء هذا التعقيب: “واعلموا أن الله غني حميد” .. غني عن عطاء الناس إطلاقا. فإذا بذلوه فإنما يبذلونه لأنفسهم فليبذلوه طيبا، وليبذلوه طيبة به نفوسهم كذلك.. حميد يتقبل الطيبات ويحمدها ويجزي عليها بالحسنى .. ولكل صفة من الصفتين في هذا الموضع إيحاء يهز القلوب. كما هز قلوب ذلك الفريق من الأنصار فعلا. (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم). وإلا فالله غني عن الخبيث الذي تقصدون إليه فتخرجون منه صدقاتكم! بينما هو – سبحانه – يحمد لكم الطيب حين تخرجونه ويجزيكم عليه جزاء الراضي الشاكر. وهو الله الرازق الوهاب .. يجزيكم عليه جزاء الحمد وهو الذي أعطاكم إياه من قبل! أي إيحاء! وأي إغراء! وأي تربية للقلوب بهذا الأسلوب العجيب!

ولما كان الكف عن الإنفاق، أو التقدم بالرديء الخبيث، إنما ينشأ عن دوافع السوء، وعن تزعزع اليقين فيما عند الله، وعن الخوف من الإملاق الذي لا يساور نفسا تتصل بالله، وتعتمد عليه، وتدرك أن مرد ما عندها إليه .. كشف الله للذين آمنوا عن هذه الدوافع لتبدو لهم عارية، وليعرفوا من أين تنبت في النفوس، وما الذي يثيرها في القلوب .. إنه الشيطان” (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا، والله واسع عليم. يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، وما يذكر إلا أولوا الألباب)… الشيطان يخوفكم الفقر، فيثير في نفوسكم الحرص والشح والتكالب. والشيطان يأمركم بالفحشاء – والفحشاء كل معصية تفحش أي تتجاوز الحد، وإن كانت قد غلبت على نوع معين من المعاصي ولكنها شاملة. وخوف الفقر كان يدعو القوم في جاهليتهم لوأد البنات وهو فاحشة، والحرص على جمع الثروة كان يؤدي ببعضهم إلى أكل الربا وهو فاحشة .. على أن خوف الفقر بسبب الإنفاق في سبيل الله في ذاته فاحشة ..

وحين يعدكم الشيطان الفقر، ويأمركم بالفحشاء يعدكم الله المغفرة والعطاء: (والله يعدكم مغفرة منه وفضلا)… ويقدم المغفرة والفضل .. فالفضل زيادة فوق المغفرة. وهو يشمل كذلك عطاء الرزق جزاء البذل والإنفاق في سبيل الله. (والله واسع عليم). يعطي عن سعة، ويعلم ما يوسوس في الصدور، وما يهجس في الضمير، والله لا يعطي المال وحده، ولا يعطي المغفرة وحدها. إنما يعطي “الحكمة” وهي توخي القصد والاعتدال، وإدراك العلل والغايات، ووضع الأمور في نصابها في تبصر وروية وإدراك: (يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا)… أوتي القصد والاعتدال فلا يفحش ولا يتعدى الحدود وأوتي إدراك العلل والغايات فلا يضل في تقدير الأمور وأوتي البصيرة المستنيرة التي تهديه للصالح الصائب من الحركات والأعمال .. وذلك خير كثير متنوع الألوان .. (وما يذكر إلا أولوا الألباب)… فصاحب اللب وهو العقل هو الذي يتذكر فلا ينسى، ويتنبه فلا يغفل، ويعتبر فلا يلج في الضلال ..

أيها المؤمنون:

هذه وظيفة العقل .. وظيفته أن يذكر موحيات الهدى ودلائله، وأن ينتفع بها فلا يعيش لاهيا غافلا. هذه الحكمة يؤتيها الله من يشاء من عباده، فهي معقودة بمشيئة الله سبحانه. هذه هي القاعدة الأساسية في التصور الإسلامي: رد كل شيء إلى المشيئة المطلقة المختارة .. وفي الوقت ذاته يقرر القرآن حقيقة أخرى: وهي أن من أراد الهداية وسعى لها سعيها وجاهد فيها فإن الله لا يحرمه منها، بل يعينه عليها: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين)… ليطمئن كل من يتجه إلى هدى الله. إن مشيئة الله ستقسم له الهدى وتؤتيه الحكمة، وتمنحه ذلك الخير الكثير”. (انتهى الاقتباس).

أيها المؤمنون:

نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، موعدنا معكم في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى، فإلى ذلك الحين وإلى أن نلقاكم ودائما، نترككم في عناية الله وحفظه وأمنه، سائلين المولى تبارك وتعالى أن يجعل القرآن ‏العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا همومنا وغمومنا، اللهم ذكرنا منه ما نسينا وعلمنا منه ما جهلنا ‏وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا واجعله حجة لنا لا علينا اللهم آمين آمين يا رب العالمين

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمد أحمد النادي