نداءات القرآن الكريم ح32 النهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة
(يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون). (آل عمران 130).
الحمد لله الذي أنزل القرآن رحمة للعالمين، ومنارا للسالكين، ومنهاجا للمؤمنين، وحجة على الخلق أجمعين. والصلاة والسلام على سيد المرسلين, وآله وصحبه الطيبين الطاهرين, والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين, واجعلنا اللهم معهم, واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها المؤمنون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وبعد: في هذه الحلقة نصغي وإياكم إلى نداء من نداءات الحق جل وعلا للذين آمنوا, ومع النداء الخامس عشر نتناول فيه الآية الكريمة الثلاثين بعد المائة من سورة آل عمران التي يقول فيها الله تبارك وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون).
نقول وبالله التوفيق:
يقول صاحب الظلال سيد قطب رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: “تجيء هذه التوجيهات كلها قبل الدخول في سياق المعركة الحربية لتشير إلى خاصية من خواص هذه العقيدة: الوحدة والشمول في مواجهة هذه العقيدة للكينونة البشرية ونشاطها كله, ورده كله إلى محور واحد: محور العبادة لله والعبودية له، والتوجه إليه بالأمر كله، والوحدة والشمول في منهج الله وهيمنته على الكينونة البشرية في كل حال من أحوالها، وفي كل شأن من شؤونها، وفي كل جانب من جوانب نشاطها. ثم تشير تلك التوجيهات بتجمعها هذا إلى الترابط بين كل ألوان النشاط الإنساني وتأثير هذا الترابط في النتائج الأخيرة لسعي الإنسان كله، كما أسلفنا.
والمنهج الإسلامي يأخذ النفس من أقطارها، وينظم حياة الجماعة جملة لا تفاريق، ومن ثم هذا الجمع بين الإعداد والاستعداد للمعركة الحربية وبين تطهير النفوس ونظافة القلوب، والسيطرة على الأهواء والشهوات، وإشاعة الود والسماحة في الجماعة، فكلها قريب من قريب، وحين نستعرض بالتفصيل كل سمة من هذه السمات، وكل توجيه من هذه التوجيهات، يتبين لنا ارتباطها الوثيق بحياة الجماعة المسلمة، وبكل مقدراتها في ميدان المعركة وفي سائر ميادين الحياة! “يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربوا أضعافا مضاعفة، واتقوا الله لعلكم تفلحون. واتقوا النار التي أعدت للكافرين. وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون” ولقد سبق الحديث عن الربا والنظام الربوي بالتفصيل، ولكن نقف عند الأضعاف المضاعفة، فإن قوما يريدون في هذا الزمان أن يتواروا خلف هذا النص، ويتداروا به، ليقولوا: إن المحرم هو الأضعاف المضاعفة، أما الأربعة في المائة والخمسة في المائة والسبعة والتسعة .. فليست أضعافا مضاعفة، وليست داخلة في نطاق التحريم! ونبدأ فنحسم القول بأن الأضعاف المضاعفة وصف لواقع، وليست شرطا يتعلق به الحكم. والنص الذي في سورة البقرة قاطع في حرمة أصل الربا بلا تحديد ولا تقييد: “وذروا ما بقي من الربا” أيا كان! فإذا انتهينا من تقرير المبدأ فرغنا لهذا الوصف، لنقول: إنه في الحقيقة ليس وصفا تاريخيا فقط للعمليات الربوية التي كانت واقعة في الجزيرة، والتي قصد إليها النهي هنا بالذات، إنما هو وصف ملازم للنظام الربوي المقيت، أيا كان سعر الفائدة.
إن النظام الربوي معناه إقامة دورة المال كلها على هذه القاعدة، ومعنى هذا أن العمليات الربوية ليست عمليات مفردة ولا بسيطة، فهي عمليات متكررة من ناحية، ومركبة من ناحية أخرى، فهي تنشئ مع الزمن والتكرار والتركيب أضعافا مضاعفة بلا جدال. إن النظام الربوي يحقق بطبيعته دائما هذا الوصف، فليس هو مقصورا على العمليات التي كانت متبعة في جزيرة العرب، إنما هو وصف ملازم للنظام في كل زمان، ومن شأن هذا النظام أن يفسد الحياة النفسية والخلقية كما أن من شأنه أن يفسد الحياة الاقتصادية والسياسية ومن ثم تتبين علاقته بحياة الأمة كلها، وتأثيره في مصائرها جميعا.
والإسلام – وهو ينشئ الأمة المسلمة – كان يريد لها نظافة الحياة النفسية والخلقية، كما كان يريد لها سلامة الحياة الاقتصادية والسياسية، وأثر هذا وذاك في نتائج المعارك التي تخوضها الأمة معروف، فالنهي عن أكل الربا في سياق التعقيب على المعركة الحربية أمر يبدو إذن مفهوما في هذا المنهج الشامل البصير .. أما التعقيب على هذا النهي بالأمر بتقوى الله رجاء الفلاح واتقاء النار التي أعدت للكافرين، أما التعقيب بهاتين اللمستين، فمفهوم كذلك وهو أنسب تعقيب: إنه لا يأكل الربا إنسان يتقي الله ويخاف النار التي أعدت للكافرين، ولا يأكل الربا إنسان يؤمن بالله، ويعزل نفسه من صفوف الكافرين .. والإيمان ليس كلمة تقال باللسان إنما هو اتباع للمنهج الذي جعله الله ترجمة عملية واقعية لهذا الإيمان، وجعل الإيمان مقدمة لتحقيقه في الحياة الواقعية، وتكييف حياة المجتمع وفق مقتضياته.
ومحال أن يجتمع إيمان ونظام ربوي في مكان، وحيثما قام النظام الربوي فهناك الخروج من هذا الدين جملة وهناك النار التي أعدت للكافرين! والمماحكة في هذا الأمر لا تخرج عن كونها مماحكة، والجمع في هذه الآيات بين النهي عن أكل الربا والدعوة إلى تقوى الله، وإلى اتقاء النار التي أعدت للكافرين، ليس عبثا ولا مصادفة، إنما هو لتقرير هذه الحقيقة وتعميقها في تصورات المسلمين، وكذلك رجاء الفلاح بترك الربا وبتقوى الله .. فالفلاح هو الثمرة الطبيعية للتقوى، ولتحقيق منهج الله في حياة الناس، ولقد سبق في النداء العاشر الحديث عن فعل الربا بالمجتمعات البشرية وويلاته البشعة في حياة الإنسانية. فلنرجع إلى هذا البيان هناك؛ لندرك معنى الفلاح هنا، واقترانه بترك النظام الربوي المقيت! ثم يجيء التوكيد الأخير: “وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون” وهو أمر عام بالطاعة لله والرسول، وتعليق الرحمة بهذه الطاعة العامة. ولكن للتعقيب به على النهي عن الربا دلالة خاصة، هي أنه لا طاعة لله وللرسول في مجتمع يقوم على النظام الربوي, ولا طاعة لله وللرسول في قلب يأكل الربا في صورة من صوره، وهكذا يكون ذلك التعقيب توكيدا بعد توكيد، وذلك فوق العلاقة الخاصة بين أحداث المعركة التي خولف فيها أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وبين الأمر بالطاعة لله وللرسول، بوصفها وسيلة الفلاح، وموضع الرجاء فيه .. ثم لقد سبق في سورة البقرة أن رأينا السياق هناك يجمع بين الحديث عن الربا، والحديث عن الصدقة. بوصفهما الوجهين المتقابلين للعلاقات الاجتماعية في النظام الاقتصادي وبوصفهما السمتين البارزتين لنوعين متباينين من النظم: النظام الربوي والنظام التعاوني، فهنا كذلك نجد هذا الجمع في الحديث عن الربا والحديث عن الإنفاق في السراء والضراء، فبعد النهي عن أكل الربا، والتحذير من النار التي أعدت للكافرين، والدعوة إلى التقوى رجاء الرحمة والفلاح، بعد هذا يجيء الأمر بالمسارعة إلى المغفرة وإلى جنة عرضها السماوات والأرض (أعدت للمتقين) ثم يكون الوصف الأول للمتقين هو: “الذين ينفقون في السراء والضراء” – فهم الفريق المقابل للذين يأكلون الربا أضعافا مضاعفة – ثم تجيء بقية الصفات والسمات”. (انتهى الاقتباس).
أيها المؤمنون:
نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، موعدنا معكم في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى، فإلى ذلك الحين وإلى أن نلقاكم ودائما، نترككم في عناية الله وحفظه وأمنه، سائلين المولى تبارك وتعالى أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا همومنا وغمومنا، اللهم ذكرنا منه ما نسينا وعلمنا منه ما جهلنا وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا واجعله حجة لنا لا علينا اللهم آمين آمين يا رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمد احمد النادي