متى تنتصر الثورة في سوريا الجزء الأول
ترنو قلوب الملايين من المسلمين في سوريا وخارجها إلى تلك اللحظة التي يتحطم فيها الطاغية ونظامه، تلك اللحظة التي تعلن فيها نهاية حقبة وبداية أخرى، وهي من الأهمية ليس فقط من زاوية إنهاء القتل والتدمير الذي يتعرض له الشعب السوري من النظام المجرم، بل ومن أجل تأسيس نظام جديد لا ظلم فيه بعد اليوم. وهنا يعود السؤال: متى يكون النصر؟ ويكاد يجزم الجميع بأن لحظة تحققه من الناحية الزمنية هي من الغيبيات التي لا يعلمها إلا الله، ولكن هناك من المفاهيم الراسخة المتعلقة بالنصر والتي لا بد من وعيها أثناء السير لتحقيقه.
لقد وقفت أمم كثيرة عبر التاريخ كما تقف الأمة في سوريا اليوم بانتظار النصر، وقد ناضلت جماعات كثيرة أيضاً في أمم متعددة من أجل الوصول إلى النصر لتحقيق ما رأته عدلاً ضد ظلم وحقاً ضد باطل. والوصول إلى تلك اللحظة المجيدة هو هدف سعت إليه أمم وجماعات وقدمت في سبيله المهج والأرواح في الأمة الاسلامية وخارجها، فما هي السبيل إلى تحقيق النصر؟ وهل يمكن تلمس الطريق الموصلة إليه؟ وهل من خصوصية للمسلمين في موضوع النصر؟
إن من أهم عوامل تحقيق النصر هو اليقين به. وهذا له وجهان: الأول: أن الوضع القائم يستحيل الاستمرار به، والثاني: أن الوضع البديل قادم لا محالة. فإذا توفر هذان الجانبان من القناعة الراسخة فقد وضعت الأمة على طريق النصر، وإن كان ذلك ليس كافياً لتحقيقه. وقبل الاستمرار في الشروط الأخرى للنصر، لا بد من الوعي بأن النصر تحققه أمة ضد أمة أو جهة داخل الأمة ضد جهة أخرى، فهناك منتصر ومنهزم وغالب ومغلوب. ولا شك أن المنهزم أو المغلوب وقبل أن تحصل له الهزيمة فإنه يعمل جاهداً لمنعها.
وعلى صعيد القناعة بالنصر، أي باستحالة الاستمرار بالوضع القائم والإيمان بالبديل فإن الطرف الذي يتعرض وضعه للاهتزاز يحاول دائماً وبأقصى طاقة يملكها وبتجنيد ما أمكن من عملاء الداخل والخارج لضرب قناعة الطرف الثائر سابقة الذكر. وفي سوريا نرى أن النظام يتحدث عن إصلاحات ويطرح مبادرات للحوار والتغيير، وإذا كنا نجزم بأن كل ذلك هو طروحات شكلية من أجل ضرب قناعة الناس والثوار وحتى يزرع قناعة جديدة بأن الوضع القائم قابل للإصلاح ولا داعي للاستمرار في الثورة، وإذا كان الثوار يأملون بتحقيق النصر وأن المسلمين عموماً يناصرون الثورة فقد عمد النظام إلى التشكيك في ذلك عبر استمرار وضعه لبعض “المسلمين” في مناصب رفيعة من الدولة التي تهتز كالحلقي والشرع وغيرهم، وزاد على ذلك بعلماء السوء من المسلمين الذين يعلنون تأييدهم له ودعوتهم للجهاد معه، وذلك من أجل إلباس الأمور على شريحة من الناس لتنفك عن الثورة بعد أن تهتز قناعتها بالنصر.
وإذا كنا نجزم بأن الثورة في سوريا قد أثبتت وعياً منقطع النظير، وأن كل هذه العقبات التي وضعها النظام لم تضعف حماسة الثائرين وظلوا يبصرون طريقهم بشكل واضح. إلا أن مسألة في غاية الأهمية لا بد من إدراكها، وهي تصور البديل للوضع القائم.
فإذا كانت دولة بشار الأسد دولة مدنية بامتياز، أي أنها ترفض الإسلام جملة وتفصيلاً فما جدوى المناداة بالدولة المدنية بديلاً عن دولة الأسد؟ وما الفرق بين الدولتين إذن؟ وهل تحقق الدولة المدنية الثانية العدل وتقضي على الظلم؟ وهنا لنتذكر بأن بسطاء التونسيين قد هللوا لدولة بن علي بعد الحبيب بورقيبة، وقد روج لها على أنها دولة العدل مع أن بن علي كان وزير داخلية بورقيبة، وفعلاً لمس التونسيون التغيير لمدة لم تزد عن عامين، ثم عادت دولة دكتاتورية أكثر عمقاً من دولة بورقيبة! فهل كان في تغيير الوجوه من جدوى رغم الترويج لذلك؟ وكان أهل تونس من المبادرين إلى ثورات الربيع العربي ليقضوا على حكم بن علي، لكن لم يكن البديل واضحاً بشكل جماهيري، فصوت الناس في الانتخابات التي تلت هروب بن علي لحركات لا تحمل مشروعاً حقيقياً بديلاً للحكم السابق، ونجحت حركات إسلامية بالاسم في تونس كما في مصر، وها نحن نشاهد ثورة أخرى ضد هذا الحكم لأن الناس لم تجد مشروعاً بديلاً ولا تغييراً حقيقياً في الحكم.
وفي سوريا ولأن الثورة كشفت عن وجه جديد في الثورات العربية وكشفت عن مشروع إسلامي كبير لبناء سوريا نواةً للدولة الإسلامية الكبرى “دولة الخلافة” فقد شاركت الأسد قوى دولية متعددة لضرب هذه القناعة في الثورة السورية، وأخذت أوروبا المعادية للأسد وأمريكا وروسيا الداعمة له ترجف على الأقليات غير الإسلامية في سوريا، وتصف نظام الإسلام على أنه عدو لهذه الأقليات وطارد لها من سوريا، وموجدة مبرر للتدخل بل وفرض الحوار حتى يبقى المجرم واقفاً صامداً ممثلاً للأقليات على الأقل في الطروحات الغربية. وإذا كنا نعلم كيدهم ونجزم بأن هذه الدول الكافرة المستعمرة إنما تريد النفوذ وضرب المشروع الإسلامي الخطير على نفوذها، إلا أن مفاهيمنا الإسلامية يجب أن تكون واضحة وضوح الشمس بأن الأقليات التي عاشت قروناً متمتعةً بعدل الإسلام ستعيش بحال أفضل من حالها اليوم في ظل الخلافة القادمة؟
وهذا يقودنا إلى مسألتين: أولهما أن طرح الدولة المدنية يضعف عزيمة الثورة والثوار لأن الفرق بين الدولة المدنية التي يراد تغييرها والدولة المدنية الثانية التي يراد بناؤها فرق صغير، ويكاد يتمثل في تغيير الأشخاص فقط ولا يتطرق إلى تغيير الأنظمة كما حصل في مصر وتونس واليمن، وهو الأمر الذي لم يكن يستحق تلك التضحيات الجسام التي قدمتها الأمة في سوريا. والمسألة الثانية: أن نظام الإسلام أي دولة الخلافة يجب أن تكون متصورة في الذهن وأحكامها وشكلها واضحة في العقل وسياستها الإسلامية ليست مبهمة المعالم، وعظمة أهدافها الشرعية متصورة في أذهان الثوار والناس بشكل يثير الأحاسيس ويوقد المشاعر ويدفق بالحماس لبنائها وللإسراع في ذلك، فهي ليست دولة تترصد للناس لكشف مخالفاتهم الشرعية وجلد ظهورهم عليها، فهي أكبر وأعظم من أن تصور هكذا، فهي دولة تجوب الأرض تنشر فيها عدل السماء وتحمل دين الله بديلاً للاستعمار ومص خيرات الأمم وبديلاً للإيدز والإنتحار وبديلاً للأزمات المالية التي تعاني منها الرأسمالية وتأكل بها وعن طريقها خيرات شعوبها وتضعها في جيوب حفنة من الرأسماليين.
وتصور البديل الإسلامي “دولة الخلافة” شكلاً ومضموناً هو الذي يوقد شعلةً لا تنطفئ من وجوب التغيير ودفع النظام المدني الظالم الجائر واستبداله بشكل انقلابي بدولة أساسها وسياستها من تعاليم ربها. وإذا كنا نجزم بأن قناعة راسخة لدى الناس والثوار قد تشكلت بشكل يقيني في سوريا بوجوب تغيير النظام القائم، إلا أن اكتساح الشارع والثورة بالإسلام وترسيخ المطالبة بدولة الخلافة بديلاً أوحداً للنظام القائم من شأنه إشعال المزيد من مشاعل النصر وطمس المعالم العلمانية التي يسهر عليها الغرب والنظام وعملاء لهما يظهرون وكأنهم من داخل الثورة. وبدون رسوخ هذه القناعات فإن الثورة لا سمح الله يمكن أن تنتكس كما انتكست ثورات مصر وتونس واليمن وخفت وهجها واستطاع الغرب التغلب على جذوتها.
وبعد هذه القناعات بوضوح الهدف، لا بد من وضوح الطريق الموصل إليها. لأن غير الطريق يكون وعراً شاقاً غير مضمون الوصول، وأما الطريق ومواصفاته فإن ذلك قناعة من جنس الهدف توصل إليه حتماً مهما طال. وطريق بناء الإسلام وفي هذه المرحلة هو طلب النصرة من أهلها، هكذا فعل محمد عليه السلام، وليس أحد من المسلمين معني بابتداع طريق جديد بعيد عن طريق محمد عليه السلام.
ولتوضيح ذلك في سوريا، فقد حاولت أمريكا خنق الثورة السورية ومنعت عنها السلاح، والسلاح فيه مظنة النصر، وفعلاً سارت الثورة دون أن تتمكن من الحصول على السلاح من الخارج إلا يسيراً لا يسد ظمأً ولا يدفع عدواناً، وهنا تشكل فريقان: فريق يطلب النصر من الله، فمن الله عليه بسلاح الغنائم من معسكرات النظام، فظلت الثورة ماضية دون أن تنتكس وإن لم تتمكن من حسم المعركة بعد، وفريق آخر قد استمرأ دعوة أمريكا وأوروبا وحكام العرب للتدخل ولتزويده بالسلاح وفرض حظر جوي، وقد دخل في ظلمات المجتمع الدولي والموقف الدولي والاصطفافات الإقليمية وضاع فيها لا يكاد يلتمس طريقاً، وقد ضل هذا الفريق كثيراً، فتارة يدعو أمريكا للتدخل، وتارة يدعو لوقف دعم روسيا للنظام، ولم يحقق شيئاً مما يصبو إليه، بل ووقع في فخ الدول عربية كانت أم أجنبية وقد أعجبه مذاق الذل فلا يكاد ينتقل من بلد إلى آخر حتى يجد من يدفع له تذكرة الطائرة، ولا يشارك في مؤتمر إلا بعد ضمان من يدفع عنه إقامة الفندق، وبهذا أصبح رهناً لسياسات الدول وتوجهاتها، حتى أصبح مستساغاً عند هذا الفريق أن تعقد أمريكا وروسيا جنيف2 لرسم مستقبل سوريا وتشكيل قيادة انتقالية جديدة لها ووفق شروط أمريكا وروسيا، أي أن ثورة الأمة في سوريا والتضحيات العظيمة التي بذلتها والمعاناة الخانقة التي لا تزال تحياها، كل ذلك يمكن إهماله وكأنه لم يحصل وأن نأخذ الوجبة التي تعدها أمريكا وروسيا في جنيف2. وهذه درجة غير مسبوقة من الاستهانة بالأمة وثورتها، ويلاحظ اليأس على جوه أفراد هذا الفريق، فهم لا يشاركون الشعب السوري الثقة بالنصر ليأسهم من دعم الغرب، أو لخيانتهم وعلمهم بأن خطط الغرب الذي يخططون معه لا تتحقق بهذه الثورة ” الإسلامية ” والتي فيها غلبة واضحة “للإسلاميين”.
محمد عايد