أمتحيرون أنتم في الإسلام؟!
أتى عمر بن الخطاب النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب فقرأه فغضب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أَمُتَهَوِّكُونَ فيها يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى عليه السلام كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني» [صحيح رواه أحمد].
والتهوُّك في اللغة التحيّر كما في مختار الصحاح، ومعنى أمتهوكون أي أمتحيرون أنتم في الإسلام حتى تأخذوا من اليهود؟ ولقد التزم سيدنا عمر رضي الله عنه تمام الالتزام بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مجرد النظر في شرائع الآخرين، فلقد عنَّف وضرب أحد أفراد رعيته عندما علم بقيامه بنسخ بعض تعاليم اليهود، فعن خالد بن عرفطة قال: ((كنت جالسًا عند عمر رضي الله عنه، إذ أتي برجل من عبد القيس سكنه بالسّوس، فقال له عمر: أنت فلان بن فلان العبديّ؟ قال: نعم، قال: وأنت النّازل بالسّوس؟ قال: نعم، فضربه بعصاة معه، فقال: ما لي يا أمير المؤمنين؟ فقال له عمر: اجلس. فجلس، فقرأ عليه ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾، فقرأها عليه ثلاثا وضربه ثلاثا، فقال الرّجل: ما لي يا أمير المؤمنين؟ فقال: أنت الّذي نسخت كتاب دانيال؟! فقال: مرني بأمرك أتّبعه، قال: انطلق فامحه بالحميم والصّوف الأبيض، ثمّ لا تَقْرَأه، ولا تُقْرِأه أحدا من النّاس، فلئن بلغني عنك أنّك قَرَأته، أو أقْرَأتَه أحدا من النّاس لأنهكنّك عقوبة، ثمّ قال له اجلس، فجلس بين يديه فقال: انطلقتُ أنا فانتسَختُ كتابا من أهل الكتاب، ثمّ جئت به في أديم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذا في يدك يا عمر؟» قال: قلت: يا رسول الله كتاب نسخته لنزداد به علما إلى علمنا، «فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى احمرّت وَجْنَتَاهُ»، ثمّ نودي بالصّلاة جامعة، فقالت الأنصار: أغضب نبيّكم هلمّ السّلاح السّلاح، فجاؤوا حتّى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا أيّها النّاس إنّي أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه، واختصر لي اختصارا، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقيّة، ولا تتهوّكوا، ولا يغرّنّكم المتهوّكون».
قال عمر: فقمت فقلت: رضيت بالله ربّا وبالإسلام دينا، وبك رسولا، ثمّ نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم. [أخرجه الضّياء في الأحاديث المختارة].
من هنا نرى كيف غضب الرسول صلى الله عليه وسلم واحمرت وجنتاه لمجرد أن رأى في يد عمر كتابًا حصل عليه من بعض أهل الكتاب، وما كان عمر رضي الله عنه ليتخذه مرجعًا يرجع إليه ليعرف به الحلال من الحرام، بل هي مجرد مطالعة ليس إلا، فكيف بنا اليوم نرى رجالا يشكلون لجنة من خمسين أو مائة يطالعون في دساتير وضعية لا لمجرد المطالعة، بل ليأخذوا منها دستورا حاكما للمسلمين يقول لهم ولباقي الناس هذا حلال وذاك حرام!، هذا حسن وذاك قبيح، وهذا مسموح وذاك ممنوع ليفتروا على الله الكذب، قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ ۖ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ [يونس:59]، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية “وقد أنكر اللّه تعالى على من حرم ما أحل اللّه، أو أحل ما حرم بمجرد الآراء والأهواء التي لا مستند لها ولا دليل عليها، ثم توعدهم على ذلك يوم القيامة فقال: ﴿وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي ما ظنهم أن يصنع بهم يوم مرجعهم إلينا يوم القيامة؟”.
أخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عباس قال: كان أبو برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناس من المسلمين فأنزل الله ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا﴾ [النساء:60]؛ مما يدل بشكل صريح على أن الرجوع إلى ما وضعه رجال لجنة الخمسين أو المائة هو رجوع لغير الأحكام الشرعية، وهو مما يعتبر رجوعا إلى الطاغوت وقد قال عنه الله أن الشيطان يريد أن يضل من يفعله.
ثم لم يكتف القرآن بذم من يُحكِّم غير الأحكام الشرعية بل نفى الإيمان عمن لا يرضى بالحكم الشرعي، فقد اختصم يهودي ومنافق فدعا المنافق إلى كعب بن الأشرف ليحكم بينهما ودعا اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتيا النبي فقضى لليهودي ولم يرض المنافق. وهذا لم يحمل منه إلا لأنه منافق. وقد قال الله: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء:65]، ثم لم يكتف بمجرد التحكيم بل اشترط الرضا بالحكم فقال: ﴿ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ مما يدل على أنه لا يكفي التقيد بالحكم الشرعي خوفا من السلطان كما فعل المنافق بل لا بد أن يرتاح المسلم للحكم الشرعي وأن يسلم به تسليما تاما.
ولذلك يحرم على المسلم أن يُحكِّم في أفعاله كلها غير الحكم الشرعي، فيحرم عليه أن يُحكِّم الدساتير والقوانين الوضعية؛ لأن الله عيّن الجهة التي يجب أن يُحكِّمها المسلم في أفعاله، وهي ما أتى به الرسول، واعتبر التحكيم لغيره تحكيما إلى الطاغوت.
فهل يُقبل من مسلم أن يصوت أو حتى يشارك في استفتاء على دستور وضعي وضعه رجال بل أشباه رجال؟ فضلا عن أن يشارك في وضعه، ثم يعمل على تضليل الناس فيدعي أن هذا الدستور من صلب الإسلام، أو أنه يحافظ على هوية مصر الإسلامية؟ طبعا هذا أمر غير مقبول ولا يجوز شرعا من عامة الناس، فكيف بمن يدعي أنه حامي حمى الشريعة، وأنه المتحدث الرسمي والوحيد بها؟ كيف بمؤسسة الأزهر تلك! أو دعاة حزب النور”السلفي” أن يشاركوا في وضع أحكام دستور وضعي ليحدد للناس شكل الدولة ونظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتعليمي وسياستها الخارجية…؟! أفيرضون أن يكونوا ومن شاركهم في وضع هذا الدستور والذي قبله أحبارا ورهبانا يقدمون أنفسهم للناس أربابا من دون الله؟، عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: «يا عدي اطرح عنك هذا الوثن»، وسمعته يقرأ في سورة براءة ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ قال: «أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه».
إننا نقول لهؤلاء ولمن يقف وراءهم داعما عملهم، مباركا إصرارهم على إخراجهم لدستور علماني للبلاد، إنكم لا تختلفون عمن سبقكم من لجان الظلم التي قنّنت الظلم دستورا، فهو ليس دستورا منبثقا عن عقيدة هذه الأمة، وهو حكم بغير ما أنزل الله. إن دستوركم هذا هو دستور زائف غير متناسق من كل وادٍ عصا، هو دستور مستورد من عند الغرب الكافر الذي يعيش أزمة اقتصادية وقيميّة خانقة من جراء نظامه الرأسمالي العفن الذي انبهرتم به فأعمى أعينكم وصمّ آذانكم.
إننا ومعنا جموع أهل مصر لا نقرّ حكما غير حكم الإسلام، إيمانا وعملا، ولا دولة غير دولة الإسلام، دولة الخلافة، وإن دستوركم الذي به تفرحون سيكون مصيره مصيرَ نظام مبارك الذي به تقتدون.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
شريف زايد
رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية مصر