مع القرآن الكريم – الاستقامة
يقول تعالى: { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ }.
هاتان الآيتان من أواخر سورة هود، وهي كلها مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: كلها مكية إلاّ آية: { وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ} . وأسند الدارمي في مسنده عن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : «إقرأوا سورة هود يوم الجمعة». وروى الترمذي عن ابن عباس قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله قد شِبْتَ! قال: «شيّبتني هود والواقعة والمرسلات وعمّ يتساءلون وإذا الشمس كورت»، وفي رواية أخرى: قالوا يا رسول الله نراك شِبت! قال: «شيبتني هود وأخواتها»، فأما سورة هود، فلما فيها من ذكر الأمم وما حلّ بهم من عاجل بأس الله تعالى. وأما أخواتها فما أشبهها من السور مثل (الحاقة)، و(سأل سائل)، و(إذا الشمس كورت) و(القارعة) وقد قيل: إن الذي شيّب النبي صلى الله عليه و سلم من سورة هود قوله تعالى: { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}.
الخطاب للرسول صلى الله عليه و سلم ولأمته من بعده «استقم» السين للسؤال أي اطلب الإقامة على الدين، كما تقول: استغفر الله: أي اطلب الغفران منه. والاستقامة هي الاستمرار في جهة واحدة من غير أخذ في جهة اليمين والشمال، وهي المضي على النهج دون انحراف، وهي لهذا تقتضي اليقظة الدائمة، والتحري الدائم للحلال والحرام، وضبط المشاعر النفسية التي تحاول أن تميل بالسير قليلاً أو كثيراً، ومن ثم فهي شغل دائم في كل حركة من حركات الحياة. جاء في صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك. قال: «قل آمنت بالله ثم استقم». وروى الدارمي في مسنده عن عثمان بن حاضر الأزدي قال: دخلت على ابن عباس فقلت أوصني. فقال: نعم، عليك بتقوى الله والاستقامة، اتبع ولا تبتدع. قال ابن عباس: ما نزل على رسول الله صلى الله عليه و سلم آية أشد ولا أشق من هذه الآية عليه.
{ وَلَا تَطْغَوْا}: لا تتجاوزوا حدود الله، والطغيان هو تجاوز الحد، ومنه قوله تعالى:{ إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَة } وقد جاء النهي عن الطغيان والمجاوزة بعد الأمر بالاستقامة خشية أن يحصل هناك غلو ومبالغة بسبب التحري الدائم لحرمات الله، فينقلب يسر الدين عسراً، فلا تقصير ولا تفريط، ولا غلو ولا إفراط.
{ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي مطّـلع على أعمالكم فيجازيكم عليها، ويجزيكم بها، فاتقوه.
{ وَلَا تَرْكَنُوا } الركون: الاستناد والسكون إلى الشيء والرضا به. قال ابن جُريج: لا تميلوا إليهم، وقال قتادة: لا تودّوهم ولا تطيعوهم. وقال أبو العالية: لا ترضوا أعمالهم.
{ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي أهل الشرك والمعاصي، الطغاة الجبارون، أصحاب القوة والجبروت، الذين يقهرون العباد بقوتهم وبطشهم، ويعبّدونهم لغير الله. فنهى الله تعالى عن الركـون إليـهـم لأن فيه إقرارهم على كفرهم وظلمهم وفسـقهم، وفي ذلك مشاركتهم في الإثم والعذاب. عن الموفق أنه صلّى خلف الإمام. فلما قرأ هذه الآية غشي عليه، فلما أفاق قيل له، فقال هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف بالظالم. وعن الحسن أن الله جعل الدين بين لاءين: { وَلَا تَطْغَوْا} { وَلَا تَرْكَنُوا}. وقال سفيان: في جهنم وادٍ لا يسكنه إلا القُرّاء الزائرون للملوك، وعن الأوزاعي: ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملاً. وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يُعصى الله في أرضه»؛ وسئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في بريّة هل يسقى شربة ماء فقال لا، قيل له يموت قال دعه يموت.
{ فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ } أي تحرقكم بمخالطتهم ومصاحبتهم وممالأتهم على إعراضهم، ومرافقتهم في أمورهم، وهذا جزاء انحرافكم عن النهج المستقيم.
{ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} أي لن تجدوا لكم أولياء يمنعونكم من عذاب الله، ثم لا ينصركم جلّت قدرته لأنه حكم بتعذيبكم.
ومن الإركان إلى الظالمين الجبّارين، الاستنصار بهم، وتوقّع العون واستمداده منهم، كمن يستمد العون من بعض الدول الظالمة القائمة في العالم الإسلامي، فإنه لا يحصد إلا الفشل والخزي في الدنيا، والعذاب في الآخرة، فالنصر لا يستمد إلاّ من الله، ومن المؤمنين المتقين المخلصين. قال تعالى: { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ } .