موقف سياسي
تمرُّ الكتل والأحزاب السياسية بأزمات ومواقف أحيانا أقل ما توصف به بأنها خانقة، ومن المعروف أن أي حزب سياسي في هذه الدنيا يسعى للوصول إلى سدة الحكم، فإنه يتأرجح بين جهتين عادةً ما تكونا على طرفي نقيض.
يتأرجح بين (الحكومة القائمة) وبين الشعب، فالحزب إن وافق الحكومة فيما تقوم به، ينظر إليه على أنه خالف تطلعات الشعب والأمة، وإن وافق الحزب تطلعات الشعب والأمة فإنه مصطدم بالحكومة القائمة لا محالة.
والحق يقال أن هذا عرف جارٍ في كل أرجاء الكرة الأرضية، وإني لأستغرب لهذه العلاقة المتنافرة بين الحكومة وبين الشعب، وكأنهما ديكين يقتتلان على دجاجات الحظيرة ! وربما أفردنا في المستقبل القريب شيئاً من طاقة الكتابة لبحث هذا الواقع الشاذ.
وما يعنينا في الأمر، هو الأحزاب السياسية وكونها تتعرض لمواقف صعبة جداً، وقد تتطلب منها هذه المواقف اتخاذ قرارات مصيرية على الحزب أو الكتلة، وأحياناً يكون عبء هذه القرارات كبيراً جداً بحيث يشكل قضية حياة أو موت فيصدق عليه الوصف بأنه (قرار مصيري).
والناظر المتتبع لسيرة الحبيب محمد عليه الصلاة والسلام في مكة، حين كان قائد كتلة المؤمنين فيها، يجد أنه قد تعرض لهذه المواقف غير ذي مرة، وكانت الأعباء دائماً كبيرة جداً جداً.
ونعرض هنا لموقف سياسي واحد فقط نستخلص منه عبراً تكفي أمة بأسرها.
تعالوا نحلق في جنبات هذا الموقف العصيب الذي مر به خير خلق الله أجمعين، وكيف أن سياسة الخنق والتغوّل كانت هي التي يفقهها سادة مكة آنذاك.
جاء في الرحيق المختوم ما نصه :
وجاءت سادات قريش إلى أبي طالب فقالوا له: يا أبا طالب، إن لك سنًا وشرفًا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين.
عَظُم على أبي طالب هذا الوعيد والتهديد الشديد، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: يا بن أخي، إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا، فأبق عليَّ وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق، فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمه خاذله، وأنه ضعُف عن نصرته، فقال: (يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ـ حتى يظهره الله أو أهلك فيه ـ ما تركته)، ثم استعبر وبكى، وقام، …
وفي هذا الموقف العصيب يتوعد السادة المتربعون على سدة الحكم بمكة، يتوعدون قائد تكتل سياسي قائم بالمنازلة حتى تتم عليه الهلكة إذا لم يقدم تنازلات سياسية أبرزوها آنذاك وجعلوها تتركز في ثلاثة أمور :
1. التوقف عن شتم الآباء
2. التوقف عن تسفيه الأحلام
3. التوقف عن التعييب على الآلهة
في مثل هذا الموقف تتجلى قدرة التكتل السياسي على دراسة كل البدائل المتاحة واتخاذ القرار الصائب، لأن النتائج خطرة، فالتكتل إن رفض الإذعان لاقى من الهوان أشده، وإن أذعن خسر ما قام من أجله، ولهذا كان لا بد من موقف واضح لا مواربة فيه ولا مراوغة لأن الأمر لا يحتمل إلا المفاصلة.
في مثل هذا الموقف لا بد من تحديد القرار ثم التعبير عنه بأنسب الأساليب، ونظرة سريعة لقرار النبي عليه الصلاة السلام آنذاك تجعلنا نقف تملؤنا الدهشة أمام هذه القوة.
لاحظوا معي يا إخوة أن قريش جاءت تهدد النبي عليه الصلاة والسلام بالمنازلة حتى الهلكة إن لم يستجب لمطالبها، وقد رأى الحبيب عليه الصلاة والسلام أن القرار الحق هو عدم الإذعان، والبقاء على القضية التي من أجلها قام تكتل المؤمنين في مكة، قضية الإسلام، والعبودية لله وحده، إفراده به سبحانه.
لم يرد منهم مجرد الإقرار بكون الله عز وجل خالقاً، فهذه قد أقروها، ولكنه أراد منهم الإقرار باستحقاقه وحده سبحانه أن تكون له العبودية الكاملة والإسلام التام والخضوع الكامل، وهذا ما رفضه سادة مكة آنذاك، فبدأ الصراع، وكان الصراع من أدواته عقد المقارنة الدائم بين حجارة قريش والتي زعموا أنها (آلهة) وبين الإله الحق سبحانه، فكانت حجارة مكة تخسر دوماً، وهذا ما لم يطقه سادة مكة، فلجئوا كعادة كل الطواغيت إلى استعراض عضلاتي أمام كتلة مستضعفة لا تملك شيئاً من العضلات، اللهم إلا قضية نذروا حياتهم من أجلها.
نقول:
لقد هددوه بالمنازلة حتى الهلكة ولكنه لما رد عليهم، وكان قد اختار عدم الإذعان، والبقاء على قضيته عليه الصلاة والسلام، قضية الإسلام، لم يجعل لتهديدهم أي اعتبار، ولم لوعيدهم أي قيمة، فكيف ذاك.
هددوه فأجابهم بإجابة تصلح في حال الإغراء، هم توعدوه بالمنازلة حتى الهلكة وهو يرد عليهم بقوله (لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري) أي أنه لو بلغ من قوة سادة قريش أن يتحكموا بحركة الكون، فيقدمون الشمس هدية إلى النبي عليه السلام وكذا القمر هدية له، لما ترك هذا الأمر، وكان هذا من أعجب المواقف السياسية في تاريخ البشرية.
موقف لا تقل عظمته عن عظمة متخذه عليه أفضل الصلاة والسلام، هو لم يأبه بوعيدهم ولا بتهديدهم، ورد عليهم رداً يقطع عليهم طريق المساومة قطعاً مبرماً، فهم مهما كانوا وصاروا لن تبلغ طاقة قوتهم أن يقدموا الشمس والقمر هدية للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، وهو قد صرح بأنهم حتى لو قدموها هدية له، فلن يغير موقفه.
يا سبحان الله على هذا الموقف السياسي العظيم، الذي لا بد أن نجعله محل تأسٍ وإتباع بحق، إن هناك من القضايا ما لا يقبل فيها مجرد المساومة، ولا يقبل فيها حتى الحديث، فإما أن تكون معنا أو تكون ضدنا، ومن هذه القضايا قضية قبول الإسلام نظاماً للحياة والمجتمع، فالمسألة بالنسبة للنبي عليه الصلاة والسلام لم تكن مجرد مصالح يريد نيل القدر الأكبر منها، فيعتمد على حنكته التفاوضية وقدرته على المساومة والمراوغة، بل المسألة بالنسبة له مسألة حياة أو موت، وقد بين ذلك بقوله (حتى يظهره الله أو أهلك فيه) أي أنه يقبل الهلكة من أجل هذا الأمر.
ولم يكن الأمر من البساطة بحيث يكون عابراً في حق النبي عليه الصلاة والسلام أو في حق كتلته، فلقد اقترن بوعيد سادة قريش ظن وقع في صدر النبي بأن عمه قد خذله وأنه قد ضعفت نصرته له، فهو لم يتخذ القرار من سعة، بل اتخذه وهو في غاية الضيق، عمه الذي يحميه قد خذله، سادة قريش ملوا وسئموا وبدأوا يلجئون إلى التوعد بالنزال والهلكة، وصاروا لا يحتملون أمر النبي، فما كان منه عليه الصلاة والسلام إلا أن بكى واستعبر.
نفسي فداؤك يا حبيب، أبكاه الموقف، ولكن رغم الشدة لم تلن قناته، ولم ينثن رمحه، ولم تضعف عزيمته، ولم تخر قواه، بل ظل غاية في القوة والصبر والتحمل فلم يتزحزح.
وإنه من باب أن الشيء بالشيء يذكر، نخرج من جنبات هذا الموقف، ونحط عائدين إلى واقعنا المعاصر، وكيف أن الكثير من الأحزاب السياسية (الإسلامية) قد جعلت قضاياها التي قامت من أجلها محل مساومة ومحل تفاوض وورقة يلعبون بها، تربح مرة وتخسر مرات، فضربوا أقبح الأمثلة على اتخاذ مواقف سياسية مخزية !
وقد وصل الأمر ببعضهم أنه قبل بأن يكون الإسلام مجرد بضعة مقاعد تحت قبة برلمان قام على طمس أي اعتراف بأن العبودية لله وحده، فباءوا بالذل والخسران، وصاروا كالبطة التي أراد تقليد مشية الغراب، فلما أخفقت أرادت أن تعود لمشية البط فما قدرت، فلا أفلحت في تقليد مشية الغراب، ولا هي حافظت على مشية البط ! فسبحان من قبح صاحب الوجهين !
الأخ الكريم، الأخت الفاضلة
إن ألف باء العمل السياسي لأي حزب تحتم عليه تحديد قضاياه المصيرية، وتحتم عليه تحديد كيفية الوصول إلى تحقيق هذه القضايا على أرض الواقع، وتحتم عليه تحديد هوية العدو، وتحديد هوية الصديق، وهذا كله يجعل اتخاذ القرار السياسي الصائب أمراً ممكناً في حال التعرض لموقف سياسي عصيب.
وإن ألف باء اتخاذ أي قرار سياسي من قبل الحزب أو الكتلة تحتم عليه الاستعداد الكامل والتام لتحمل تبعات هذا القرار، لهذا كان لا بد من ثقافة التعبئة.
والمقصود بثقافة التعبئة هو تثقيف كل أعضاء الحزب بما يلزمهم ليستعصي على أعداء الحزب درسهم ومضغهم !
لابد أن يعلم كل عضو في الحزب أنه ليس في نزهة، وأن أي قرار سياسي يتخذه الحزب سيكون هو -أي العضو- الركيزة الأولى في إنفاذ هذا القرار.
بعض أعضاء الأحزاب يخوضون الحياة الحزبية حباً منهم للمغامرة والتغيير، فإذا ما ادلهمت الخطوب، واشتد الخناق، وأصبحت رؤية الشمس والعصافير ذكريات جميلة، تجدهم ارتعدت منهم الفرائص وصاروا يفكرون بالنجاة.
لذلك كان لا بد من ثقافة التعبئة، وكان لا بد من ربط كل تضحية بعوض لا يقاوم إغرائه، والحق أنه لا عوض في الدنيا يعوض الإنسان عن رؤية الشمس كل صباح وسماع تغريد العصافير !
ولكن العوض في الآخرة، ولذلك فإن التضحية واستعذاب العذابات أمر لا تجده إلا عند المسلمين، أو بالأحرى عند حملة الدعوة من المسلمين.
أوليس الذي يموت من أجل أن يقول الحق في وجه حاكم ظالم حاز على مرتبة (سيد الشهداء) والتي لم يحزها أحد إلا حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، فتخيلوا أن المسلم ممكن أن يصير في مقام حمزة بن عبد المطلب، لدرس يلقيه في مسجد أو كلمة حق مسطرة في منشور يوزعه أو خطبة جمعة يلقيها أمام الناس أو موقف صلب يعبر عنه بالاشتراك في مسيرة صدق !
إن الأحزاب (الإسلامية) تملك من الطاقة ما لا تملكه أي طائفة من طوائف البشر أجمعين، فالمسلمون يملكون عقيدة تقوم على أساس النضال والتضحية من أجل القضية التي حملنا إياها الإسلام، إنها قضية الحكم بالإسلام.
وإن قبول الأحزاب (الإسلامية) بالمواقع الوضيعة لهو إضاعة للطاقة الكامنة فضلاً عن أنه سير في عكس اتجاه الحق.
إننا لا نطلب الكثير… فقط كل ما نطلبه من الأحزاب (الإسلامية) أن تدرس هذا الموقف للنبي عليه الصلاة والسلام وأن تجعله محل تأسٍ واتباع، فإن دراسة هذا الموقف وحده كفيل بتشكيل خط سير يوصل إلى النصر والفلاح حتماً.
وإنا لنسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من الذين ورد ذكرهم في سورة القصص حيث قال :
{ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ }
راجي العقابي
26 – 4 – 2009 م.