مهرجان طبول السلام! فاقد الشيء لا يعطيه
أكدت وزيرة الرعاية والضمان الاجتماعي مشاعر الدولب على أهمية دور الحكامات في نشر ثقافة السلام ونبذ العنف والاقتتال، مشيرة إلى اهتمامها ورعايتها بقضايا الحكّامات ودورهن في مسيرة السلام والاستقرار، وذلك في مخاطبتها اليوم الختامي لورشة الحكامات بالسودان (مهرجان طبول السلام) التي نظمها مركز المرأة للسلام والتنمية بعنوان: (نبذ العنف ونشر ثقافة السلام) تحت شعار: (حكامات السودان سفيرات السلام) وأطلقت الوزيرة على الحكَّامات صانعات السلام، وتسلمت وثيقة منهن بنبذ العنف وأعلنت عن قيام اتحاد قومي بكل ولايات السودان للحكامات. (موقع وزارة الرعاية والضمان الاجتماعي 2014/2/23).
حروب مستعرة في كل مكان، يُقتل الأبرياء دون غاية نبيلة، يتناحر فيها الناس، بل تنزع الإنسانية منهم وهم يتهافتون على الانتقام من شخص أعزل بكل ما يمتلكون من قوة، في شيء تأباه الفطرة، سالت الدماء بحوراً، فما أشبه الأيام بداحس والغبراء؛ التي امتدت أربعين عاما وسببها رهان بين فرسين لزعيمي العشيرتين فاستعرت الحرب وسالت الدماء، وما أشبه الأجواء العامة اليوم في مجتمعاتنا بأيامهم وكل من هب ودب يبحث عمّا يميزه عن غيره، لون أو لسان أو حتى عرق أو وطن، فصار الكثير من الناس يعتز بتلك العصبية، ويرى أنها قضيته التي يفنى دونها ويقدم أغلى ما يملك قرباناً لها فأوجد ذلك صراعا ما زال يموت بسببه بنو آدم في كل مكان.
السودان مثل غيره في هذه الأجواء ينام الناس ويستيقظون منذ وجود بلد بهذا الاسم الذي هو العصبية بعينها كتب الدكتور/ حسن الفاتح قريب الله بمجلة الثقافة السودانية، العدد-16 بتاريخ ديسمبر 1980م، تحت عنوان: (السودان بين الوصفية والاسمية)، لون شعب هذا الوادي واختلاف سحنته عن سواه، ومقابلته بشرته، هو الذي أكسبه الوصف بالسودان.
ومن هذه العصبية تولدت عصبيات داخل العصبية فصار سكان كل جهة يسمون بها وبأصلهم يعتزون (شمالي جنوبي غرباوي أدروب)، هذا بالإضافة إلى الجهل بأحكام الدين الحنيف، والظلم الناتج عن الأنظمة الرأسمالية المتعاقبة، مما دفع الناس للتسلح وامتهان الحروب لنيل الحقوق، والعدو الكافر اللعين يراقب بذرته (فرق تسد) التي وضعها، وهي تثمر فيسقيها ويرعاها ويسهر لتقديم كل ما يبقيها لأنه يعلم بأن هذا ما يبقيه الأقوى، ينهب الثروات والناس مشغولون عنه بالتصارع، فكانت المعونات والدعم الغربي بالسلاح والعتاد الحربي والمشورة مع عدم وجود حكم رشيد يعتق الناس من براثن العصبية ويعدل بينهم فيحقن دماءهم.
غرب السودان تتعاظم العصبية فيه، فهو أرض بها أصول مختلفة، ومع الجهل فقد أصبح من العادة وجود تقاليد الرقص والغناء بقيادة سيدة تعرف بالحكّامة، وأهم أشعار الحكامات تلك القصائد التي يفخرن فيها بالأهل والعشيرة ويمجدن فيها الآباء والإخوان والأجداد والثأر، كما كان يحدث في الجاهلية… وتقول خديجة حماد، إحدى الحكّامات إن الفخر بالآباء هو أحد أهم القضايا وتقدم أنموذجا من قصائدها في أبيها قائلة:
(أبوي ألا حمد والحماد الغالي ما رخيص
أبوي ركاب بنات سعدان «بنات سعدان هي الخيل» وفراش فروة الريف
أبوي الأسد الزنيف كان لقى العدو منو ما بقيف.)
وتقول في الفخر بأجدادها:
(جدودي فراس ولكن الدنيا زائلة
ظعينا سايرة من الضحى حتى القايلة.
وتقول حليمة: أنت يا أبوي البحر
مع القدرك مفرهد ذي نونية الدهر
أنت كأس الحنظل كان شموه أتبعثر
أنت كوكب شنقة في البطون اتحدر
أبوي في الحرب الأولى ما قبل أبوي وش الرجال اتقبل
أبوي أسد الكوكة على البداوة هضلل)
وللحكامة سلطة على القبيلة إذا تتبعناها نجدها تتجاوز حدود الغناء فقط.. وهذه السلطة تستخدم أغلب الأحيان في التحريض على القتل والسلب.. مثل أن تقول الحكامة شرطًا، أنها تريد رأس فارس القبيلة الفلانية… وبالتالي لا بد من تنفيذ هذا الشرط وإلا لوجد جميع الرجال أنفسهم أمام حالة خيبة.. وكذلك طلب الحكامة ثورًا من بقر القبيلة الفلانية وهذه الطلبات عادة ما تؤدي لحروب طويلة.
والحكامات هن نساء ذوات مكانة إعلامية عالية في مجتمع غرب السودان الريفي في مناطق دارفور وكردفان. وهن أنموذج للإعلاميات الشعبيات على غرار ما في الوطن العربي. فالحكامة هي التي تضع قوانين وأسس المجتمع في الأخلاق والكرم والشجاعة والجود فتمدح هذا وتذم ذلك على أسس نابعة من التقاليد والأعراف، وهي التي تثير الحروب بين قبائل المنطقة أو توقفها من خلال الأشعار والأهازيج والأقوال المرتجلة التي تنطق بها. وتجد الحكامة احترام كل أفراد القبيلة والمجتمع ويتقرب إليها كبار العشيرة حتى تتحدث بمفاخرهم وتذيعها في القبيلة والقبائل المجاورة التي تتناقل ما تقوله الحكامات.
والحكامات أيضا يحفظن عن ظهر قلب ما جرى بالقبيلة وتاريخها وسير أبطالها… ترويها في أفراحهم وأتراحهم… وهي التي تخلد سيرة موتاهم بقصائد يتغنى بها الناس. ومع وجود منظمات الأمومة والطفولة في غرب السودان استخدمت الحكامات كإعلاميات لمحاربة زواج الصغيرات والختان وغيره من أجندة هذه المنظمات، كما حوكمت إحداهن في محكمة جرائم دارفور بسبب ما قالته من أشعار أوجد اقتتالا راح ضحيته الكثيرين على أيدي ما يسمى بالجنجويد.
والحكامات في غرب السودان أنموذج للإعلاميات الشعبيات، بل لهن أثر أكبر وأعظم من الإعلام الرسمي بالمنطقة، ما جعل الحكومة تعمل على استغلالهن في تنفيذ سياساتها بالمنطقة لذلك كان احتضانهن من قبل الحكومة وتقديم الدعم لهن، بل أصبحن تعقد معهن اللقاءات في الفضائيات لنشر ثقافتهن.
إن سبب كل هذه المشاكل واحد، هو عدم تطبيق شرع الله الذي به وحده يعم السلام والأمن والأخوة الخالصة التي لا يعكر صفوها عصبية جاهلية.
إن المطلع على تاريخ الإسلام يرى روائع تقف شامخة تشهد على عظمة دين الله وقوته في النفوس، حين يتملكها، فيتحول الناس إلى إخوة متحابين في الله، بعد أن كانوا أعداء. قال تعالى: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم﴾، “الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَلَّفَ بَيْن قُلُوبهمْ﴾ وَجَمَعَ بَيْن قُلُوب الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الأَوْس وَالْخَزْرَج بَعْد التَّفَرُّق وَالتَّشَتُّت عَلَى دِينه الْحَقّ، فَصَيَّرَهُمْ بِهِ جَمِيعًا بَعْد أَنْ كَانُوا أَشْتَاتًا، وَإِخْوَانًا بَعْد أَنْ كَانُوا أَعْدَاء. وَقَوْله: ﴿لَوْ أَنْفَقْت مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا مَا أَلَّفْت بَيْن قُلُوبهمْ﴾، يَقُول تَعَالَى ذِكْره لِنَبِيِّهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَنْفَقْت يَا مُحَمَّد مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا مِنْ ذَهَب وَوَرِق وَعَرَض، مَا جَمَعْت أَنْتَ بَيْن قُلُوبهمْ بِحِيَلِك، وَلَكِنَّ اللَّه جَمَعَهَا عَلَى الْهُدَى، فَائْتَلَفَتْ وَاجْتَمَعَتْ تَقْوِيَة مِنْ اللَّه لَك وتَأْيِيدًا مِنْهُ وَمَعُونَة عَلَى عَدُوّك. يَقُول جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَاَلَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ وَسَبَّبَهُ لَك حَتَّى صَارُوا لَك أَعْوَانًا وَأَنْصَارًا وَيَدًا وَاحِدَة عَلَى مَنْ بَغَاك سُوءًا هُوَ الَّذِي إِنْ رَامَ عَدُوّ مِنْك مَرَامًا يَكْفِيك كَيْده وَيَنْصُرك عَلَيْهِ، فَثِقْ بِهِ وَامْضِ لأَمْرِهِ وَتَوَكَّلْ عَلَيْه”. (الطبري)، فالألفة وعيش الناس في سلام ومحبة نتيجة حتمية لالتزام دين الله في حياتهم، وتطبيق أنظمة الإسلام كاملة فكان حقا على الله أن يجعلهم إخوة فهل نحن معتبرون!
إن أهل السودان مسلمون وإنْ غاب فهمهم لأحكامه تغيبا متعمداً، فلا بد هم راجعون إليها حيث ينصهرون مع غيرهم من الأمم والشعوب في بوتقة الإسلام، تاركين وراءهم عصبية جاهلية، ويكون ذلك حين نعتصم بحبل الله، قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ [آل عمران: 103] فنحقق قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾.
كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
أم أواب غادة عبد الجبار