مع القرآن الكريم – الكتابة سابقة وليست سائقة
قال الله تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5-10].
وقال: { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر:60].
روى البخاري وبقيّة الجماعة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ( كنّا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله، ومعه مِخْصَرة فنكس فجعل ينكتُ بمخصرته، ثم قال: ( ما منكم من أحدٍ – أو ما من نَفْس منفوسة – إلاّ كُتِبَ مكانُها من الجَنّة والنار، وإلاّ كُتِبَ شقيّة أو سعيدة ). فقال رجل: يا رسولَ الله أفلا نتّكل على كتابنا ونَدَعُ العمل؟ فمن كان مِنّا من أهل السعادة فسيصير إلى أهل السعادة، ومن كان منا من أهل الشقاء فسيصير إلى أهل الشقاء؟ فقال: ( أمّا أهل السعادة فيُيَسَّرون لعمل أهل السعادة، وأمّا أهل الشقاء فييسرون إلى عمل أهل الشقاء ) ثم قرأ: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} ).
إذا قُرئ الحديث بدون الآيات التي قرأها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في آخره فإنه قد يحصل خلل في الفهم، أما الانتباه إلى ربط الآيات بالحديث فإنه يجلي المعنى بوضوح. لقد فهم الصحابة رضي الله عنهم أنه لا فائدة من العمل ما دام مصير الإنسان قد تقرر سلفاً، وكُتِب له في اللوح المحفوظ أنه من أهل الجنة أو من أهل النار. ولذلك سألوا الرسول: هل بقي للعمل من نفع ما دامت النتيجة محسومة؟ فأجاب كما في الرواية الأخرى: ( اعملوا فكلٌّ ميسر لِما خُلِق له ). فهو صلى الله عليه وسلم قد أمر بالعمل. ولكن هذا الجواب قد يُشْعِر بأن الكتابة السابقة تُجْبِرُ العبد على أفعال معيّنة مفروضة عليه، ومصيره إلى الشقاء أو إلى السعادة مفروض عليه فرضاً، ولكنّ ربط الآيات بالحديث يقلب التصوّر ويصححه. فالآيات تقول: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * َسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى } أي أن تيسيره لليسرى هو بسبب عمله. فعمله هو الأصل والتيسير هو الفرع. والآيات التي لحقت تقول: { وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } أي أن تيسيره للعسرى هو بسبب عمله وليست الكتابة السابقة. فالكتابة سبقت القيام بالعمل ولكنها لم تكن هي الدافع إلى العمل.
الله سبحانه علم منذ الأزل أن فلاناً سيفعل كذا وكذا باختياره، فكتب في اللوح المحفوظ أن عبدي فلاناً سيفعل كذا وكذا في زمن كذا وكذا. ونستطيع أن نضرب مثلاً تقريبياً، ولله المثل الأعلى، حين يكتب علماء الفلك في هذه الأيام أن القمر سيخسف في ليلة كذا، أو أن الشمس ستكسف في يوم كذا، ويكتبون بالتفصيل كم سيدوم الخسوف أو الكسوف، وهل سيكون كلياً أو جزئياً. هل كتابة العلماء هذه هي التي أجبرت القمر أو الشمس على الخسوف؟ كلا. الكتابة تسبق الخسوف بأزمنة طويلة، وحين يحصل الخسوف كما هو مكتوب بالضبط فهذا يدل على أن علم العلماء صحيح. وبما أن الله علمه صحيح فإن عمل الإنسان سيكون طبق الكتابة في اللوح المحفوظ بالضبط. ولذلك نقول بأن الكتابة في اللوح المحفوظ هي سابقة وليست سائقة. إنها سبقت العمل ولكنها لم تَسُق الإنسان إلى العمل.
وهذا ينطبق على الدعاء. فالدعاء الذي يدعو به الإنسان الآن قد علم الله منذ الأزل أن الإنسان سيدعو به، وقرر منذ الأزل الإجابة إذا توفرت عند الداعي شروط الإجابة. ولهذا قال تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ }.
فلا يقولَنَّ قائل: لا فائدة من الدعاء ولا فائدة من العمل بعد أن رفعت الأقلام وجفت الصحف. بل لها كل الفائدة. جاء في الحديث القُدُسي: ( يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيتها لكم ) .