Take a fresh look at your lifestyle.

معالم الإيمان المستنير م8 ح2 الدليل العقلي على أن القرآن من عند الله

 

أيها المؤمنون:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وبعد:

وقفنا في الحلقة السابقة عند السؤال الذي يقول: هل قبل العرب التحدي أم لم يقبلوه؟ هل حاول العرب أن يثبتوا أن بمقدورهم أن يأتوا بقرآن مثل هذا القرآن؟ أم أنهم أقروا بالعجز للوهلة الأولى؟

والجواب على ذلك أن العرب قبلوا التحدي, وحاولوا أن يقلدوا القرآن, ولكنهم عجزوا عن الإتيان بمثله, وعلاوة على ذلك فقد أقر العرب لهذا القرآن بالإعجاز, وقالوا عنه بأنه سحر يؤثر, فقد استمع عمرو بن العاص كلام مسيلمة إذ عارض سورة الفيل التي يقول فيها رب العزة: (بسم الله الر‌حمن الر‌حيم ألم تر‌ كيف فعل ر‌بك بأصحاب الفيل * ألم يجعل كيدهم في تضليل * وأر‌سل عليهم طير‌ا أبابيل * تر‌ميهم بحجار‌ة من سجيل * فجعلهم كعصف مأكول). (الفيل5)

يقول مسيلمة: “الفيل ما الفيل؟ وما أدراك ما الفيل؟ له ذنب قصير, وخرطوم طويل, يمشي على الزنجبيل”. فقال مسيلمة لعمرو بن العاص: أليست هذه أفصح من السورة التي نزلت على صاحبكم؟ أتدرون ماذا كان جواب عمرو لمسيلمة الكذاب؟ قال له عمرو: “والله إنك تعلم أني أعلم أنك كاذب”!!!

وإذا أردنا أن نحاكم كلام عمرو, وقد كان يومئذ كافرا لا يؤمن برسالة محمد ولا بنبوته, فأقرب الأقوال فيه أنه ميز القول الصادق الفصيح من القول الزائف الساقط الكاذب, فتراه يقول لمسيلمة: إنك كاذب! ولم يقل: إنك ومحمدا كاذبان! إذ إنه يعلم أن محمدا صادق, وأن قرآنه معجز وفوق المقارنات!

ولو أردنا أن نحاكم مسيلمة أيضا لقلنا: إنه يقر لمحمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة, ويقر لقرآنه بالتفوق والإعجاز, فهو قد هضم فكرة النبوة, والدليل على ذلك أنه ادعى النبوة وهضم فكرة القرآن المعجز , والدليل على ذلك أقواله في معارضته التي أثبتت تفوق القرآن وإعجازه وكذب مسيلمة وادعاءه. ويحلو لي في هذا المقام أن أذكر لكم بعض ما جاء في قرآن مسيلمة المزعوم, فهو يقول:” والطاحنات طحنا, والعاجنات عجنا, والخابزات خبزا”. ويقول: “يا ضفدع بنت ضفدعين. نقي كما تنقين. أعلاك في الماء, وأسفلك في الطين. ومن العجائب شاة سوداء تحلب لبنا أبيض!

أيها المؤمنون:

ألا ترون معي أنه قد بان للناس سخف كلام مسيلمة وقلة فصاحتة بهذا الهذر السخيف؟ أيجوز لنا أن نعد مثل هذا الكلام كلاما فصيحا؟ إن الذوق السليم يمج مثل هذا الكلام, ويسقطه من حساب المقارنة, ولا يقيم له وزنا, وإن كان هذا الكلام السخيف يحمل في ثناياه الاعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبوساطة جبريل عليه السلام وبسمو القرآن!

ثم لماذا نذهب بعيدا إلى مسيلمة؟ تعالوا معي لنسمع ما يقوله أهل الفصاحة والبلاغة, وأمراء الفصاحة وجهابذة البيان من أهل مكة الذين كانت لأحكامهم النقدية الكلمة الفصل في قصائد الشعراء, وخطب الخطباء, وهم علاوة على ذلك من أعدى أعداء الإسلام, ودعوة الإسلام, ونبي الإسلام, محمد عليه الصلاة والسلام.

تعالوا معي إلى هؤلاء لنرى ونسمع ما يقولون, نحن الآن مع ثلاثة من كفار قريش وهم: أبو جهل, وأبو سفيان, وعتبة بن ربيعة, جاءوا مع عتمة الليل, كل منهم في زاوية من زوايا الطريق, حول البيت ليسمعوا قرآن محمد, إذ كان يقوم أدنى من ثلثي الليل, يرتل القرآن في صلاته, بصوته الشجي الندي ترتيلا يأخذ بالألباب!

لم يتفقوا على الإتيان, إنما جاء كل منهم بمفرده, ولما فرغ محمد صلى الله عليه وسلم من ترتيله انصرفوا, فجمعهم الطريق العام, وقد أخذتهم الدهشة, إذ كيف يأتون ليسمعوا القرآن من عدوهم! وما الذي أتى بهم؟ وكيف إذا رآهم سفهاء قريش على حد تعبيرهم؟ إذن لدخل الإسلام كل الأبواب, وطرق كل القلوب!

وتعاهدوا على ألا يعودوا, وكان كل منهم يضمر أن يعود, يقول في نفسه: لن يعود صاحباي, وسأعود بمفردي لأستمع القرآن وحدي, وقد عادوا ثلاثتهم في الليلة الثانية, وفعلوا ما فعلوه في الليلة الأولى, فجمعهم الطريق العام وهم عائدون بعد سماعهم القرآن, وتعاهدوا كما تعاهدوا من قبل على أن لا يعودوا, وعادوا في الليلة الثالثة ليسمعوا قرآن محمد, وهم من هم عداوة وشراسة وعنادا, أما هذه المرة, فقد تعاهدوا عند البيت الحرام على ألا يعودوا, وفعلا لم يعودوا بعدها!
أيها المؤمنون:

لا بد من وقفة مع هؤلاء, لا بد من أن نسأل: لماذا ذهب هؤلاء والقرآن يتحداهم أن يأتوا بمثله؟ أذهبوا ليعارضوه أم ليسمعوه؟ أذهبوا معجبين أم منكرين ساخطين؟ أظن أن الجواب: إنهم ذهبوا مقرين بإعجاز القرآن, وإلا فما هو هذا الشيء الذي يحتاج الامتناع عن سماعه لقسم عند البيت الحرام, والذي يمنعهم من الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم هو حرصهم على الزعامة والسيادة لا افتقارهم إلى القناعات؟فالقرآن قد شدهم, وأخذ عليهم منافذ النفس إذ أنه ملأها إعجابا وشوقا لسماع القرآن, ولا أدل على ذلك من هذه الرواية: روى البيهقي في شعب الإيمان عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الوليد بن المغيرة، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فقال له: يا عم، إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا. قال: لم ؟ قال: ليعطوكه فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا. قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له أو أنك كاره له. قال الوليد: وماذا أقول؟ “والله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، والله إن لقوله الذي يقول حلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه, مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته, وما هو بقول البشر”. ويكفي في القرآن شهادة هذا القرشي الكافر الذي أحنى رأسه اعترافا وإعجابا!

أيها المؤمنون:

نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة, موعدنا معكم في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى, فإلى ذلك الحين وإلى أن نلقاكم ودائما, نترككم في عناية الله وحفظه وأمنه, سائلين المولى تبارك وتعالى أن يعزنا بالإسلام, وأن يعز الإسلام بنا, وأن يكرمنا بنصره, وأن يقر أعيننا بقيام دولة الخلافة في القريب العاجل, وأن يجعلنا من جنودها وشهودها وشهدائها, إنه ولي ذلك والقادر عليه. نشكركم على حسن استماعكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.