سياسة مناهج التعليم في ظل الحكم الجبري سياسة تجهيل لا تعليم!
يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [سورة النحل: 78]، وقال الحق سبحانه وتعالى: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ [سورة الغاشية: 17-20]، ويقول سبحانه: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [سورة الأعراف: 179].
والمتأمل للآية الكريمة الأولى ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ… ﴾ يتبين عظمة نعمة الحواس كالسمع والبصر اللتين وهبهما الله لكل مولود جديد لا يعلم شيئا، لتكون له المفاتيح لكل علم. أما الآيات التالية ففيها أمر من الله سبحانه لضرورة استخدام هذه الحواس في التفكير والتفسير والتحليل والوصول للحقائق. وتبين الآية الأخيرة أن من يتجاهل نعمة الحواس، ولا يستخدمها بالطريقة التي أمره الله سبحانه بها فهو كالأنعام بل أشد ضلالا منها، وأن عاقبة تجاهله لاستخدامها وخيمة في الدنيا والآخرة. وهكذا، نلاحظ أن القرآن الكريم دائما يربط بين التفكير العقلي وبين استخدام الحواس؛ فالحواس الخمس تعتبر نوافذ العقل على العالم الخارجي المحسوس، الذي يمثل للعقل ميدان تأمل وتفكير وإدراك للمعاني المجردة.
ولأن الله سبحانه رب العالمين، والخالق للبشر ولأدمغتهم ولعقولهم، والعليم الخبير بكيفية عملها، فإنه سبحانه عندما أخبر الناس بالقرآن الكريم بما لا يقع تحت حسهم كالجنة والنار، لم يكتفِ بمجرد الذكر للجنة والنار ذكرا مجردا؛ بل وصفها بالصور البلاغية وصفا بيانيا، حتى يقرب الصورة لعقل قارئ القرآن الكريم، فيحس كأنه يرى الجنة ويتذوق نعيمها، ويحس كأنه يرى جهنم ويلتفح بلهيبها وعذابها. ومتى ما أحس الإنسان بالجنة والنار إحساسا يقارب إحساسه بالواقع المحسوس بحواسه الخمس، فإن الجنة والنار عنده تصبح مفاهيم راسخة تؤثر تأثيرا واضحا في سلوكه، فلا يفعل ما يؤدي به إلى النار، مثلما أنه لا يلمس لهب نار الدنيا، ويخاف أن يحترق فيها!.. وهذا كله، طبعا من عظمة تربية القرآن للعقل والنفس البشرية وتقويم سلوكها.
والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ربّى صحابته الكرام تربية قرآنية، فأوجد شخصيات إسلامية (عقلية ونفسية)، وتبعه الخلفاء الراشدون بانتهاج نفس منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في التربية. فكان النهوض للأمة الإسلامية لترتقي عرش سائر الأمم، ولتمسك بقوة زمام القيادة الفكرية للعالم، ولتزدهر في جميع مجالات الحياة: فكرية، وعلمية، وعملية.
وبعد هذا التوضيح، نرى – بما لا يدع مجالا للشك – عمق جريمة سياسة مناهج التعليم في ظل الحكم الجبري، وكيف أنها تعمدت بالتعاون مع الغرب الكافر تعطيل عملية التفكير لدينا! سواء في تعلم العقيدة، أو في تعلم العلوم المجردة كالفيزياء والكيمياء وغيرها من العلوم.
ففي العقيدة، يكفي جُرما لسياسة التعليم في الحكم الجبري أنها سعت وبكل جد إلى تجهيل العرب المسلمين (خصوصا) باللغة العربية، حتى بات الواحد فيهم يقرأ القرآن كالأعاجم، فلا يحس بصور القرآن البيانية، ولا يستشعر حرارة جهنم ولا نعيم الجنة، حتى أصبحت عنده الجنة والنار مجرد ألفاظ خالية من أية مفاهيم، ففقدت تأثيرها على السلوك، فصار المسلم وإن علِم أن الربا يؤدي لجهنم يأكله! وصارت المسلمة وإن علمت أن التبرج يؤدي لجهنم تتبرج!.. وصار المسلمون وإن علموا أن العمل للخلافة الإسلامية فرض يؤدي إلى الجنة تقاعسوا عنه!
هذا من ناحية العقيدة، أما جريمة سياسات التجهيل بالنواحي العلمية، فإنها تكمن في: حصرها لعملية التعلم على الإدراك الصِرف (المجرد) أي التعليم بالتلقين، لا على الإدراك الحسي الناتج عن استخدام الحواس الخمس، ومثال على ذلك: تعلم الطلاب قوانين الجاذبية والمقذوفات نظريا على الورقة والقلم، فتكون خيالا غير متصور في ذهن الطالب، فيحفظه ويردده كببغاء ليُمتحن فيه ثم ينساه! بينما التعلم الحسي لنفس الموضوع يكون بتطبيق قوانين الجاذبية بمختبر علمي مجهز لهذه الغايات، فيرى الطالب بعينيه ويلمس بيديه كيف مثلا تؤثر زاوية إطلاق المقذوف أو سرعته على بعد المدى الذي يصل إليه المقذوف، وهكذا. فإن المعلومة التي يحسها الطالب بحواسه لها فائدتان: ترسخ بالدماغ فيصُعب نسيانها، ويتأتى للعقل أن يزيد على هذه المعلومة أو ينقص منها أو ينقضها أو يثبت صحتها، فيصبح عالما ومفكرا ومخترعا، وهذا ما لا تريده سياسات التجهيل في بلادنا، بل تريد أن تبقينا تبعا للغرب الكافر، لنقتات على فضلاتهم، ولنلوك من ورائهم ما مضغوه لنا من فكر وعلوم دون تفكير أو تمحيص. للمزيد (*).
لذلك، من الجهل التام أن نظن للحظة، أننا نستطيع النهوض بين الأمم طالما بقينا نحن والأجيال القادمة من أبنائنا نرزح تحت نير هذه الأنظمة الجبرية التجهيلية! والحل الأوحد للنهوض والارتقاء بجميع المجالات: تعليميا، وعلميا، وسياسيا، واقتصاديا، وفكريا، وقياديا يكون فقط باستئناف الحياة على أساس مبدأ الإسلام وإقامة دولة الخلافة الإسلامية؛ لأن الخلافة الإسلامية هي من ترعى الفكر المستنير، وهي من تطبق مبدأ الإسلام وأحكامه في معترك الحياة، فيصبح واقعا محسوسا (نحسه بحواسنا الخمس)، فيسهل علينا فهمه وإدراكه، ويسهل أيضا على الأمم غير المسلمة أن تفهمه وتدرك عظمته ورحمته وعدله فتدخل فيه.
فحيهلا إلى إخراج الإسلام من بطون الكتب إلى واقع الحياة.. وحيهلا للعمل مع حزب التحرير المُدرك لواقع الأمة ولجميع مشاكلها، والمدرك لكيفية إنهاضها نهضة صحيحة، والمدرك لكيفية رعاية شؤونها بإقامة الخلافة الإسلامية.. وحيهلا إلى عز الدنيا وعز الآخرة.
كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
منال التميمي
(*) وثيقة كامبل تبرمان، وقد صاغها اللورد هنري كامبل رئيس وزراء بريطانيا بين عامي (1905-1908). وبعث بها إلى الجامعات البريطانية والفرنسية لدراستها، وقد أصدرتها هذه الجامعات عام 1907 تحت اسم (وثيقة كامبل): وجاء فيها أن من واجب الحضارة الغربية أخذ الاحتياطات والإجراءات لمنع أي تقدم علمي محتمل لهذه المنظومة الثقافية أو إحدى دولها (دول العالم الإسلامي) لأنها مُهدِدة للنظام القيمي الغربي، ولا بد من التعامل معها وفق الإجراءات التالية: 1- حرمان دولها من المعرفة والتقنية وضبطها في حدود معينة …الخ”.
وللمزيد من المعلومات حول ما جاء بالمقالة بالأدلة الشرعية، يمكن الاطلاع على:
1) كتاب: أسس التعليم المنهجي في دولة الخلافة. من إصدارات حزب التحرير.
2) كتاب: مقدمة الدستور أو الأسباب الموجبة له (القسم الثاني)، في باب: سياسة التعليم في دستور دولة الخلافة على منهاج النبوة. من إصدارات حزب التحرير.
3) كتاب: الشخصية الإسلامية، الجزء الأول، تأليف الشيخ تقي الدين النبهاني، وهو كتاب من إصدارات حزب التحرير.
4) كتاب: التفكير، تأليف الشيخ تقي الدين النبهاني.