عففت فعفوا ولو رتعت لرتعوا
بعد حادثة مكتب والي الخرطوم التي حدثت فيها اختلاسات فساد مالي تحدث الناس عن مبالغ طائلة أخذت من مكتب الوالي من قبل بعض الموظفين المقربين للوالي، وأخيراً تم احتواء هذه القضية التي شغلت وما زالت تشغل الرأي العام كثيراً وقد تناولتها أجهزة الإعلام وخاصة الصحف المحلية وشكل ذلك إزعاجاً شديداً للحكومة مما جعل جهاز الأمن يهدد بإعادة الرقابة القبلية للصحف، بعد هذا الحادث فعّلت الحكومة ما يسمى بقانون الثراء الحرام وما يحتويه من فكرة التحلل، أي أن كل من أخذ مالاً من المال العام مهما كبر حجم ذلك المال ثم أعاده فإنه يكون في حل من المساءلة القانونية ولا يكشف عنه وقد ابتدع لهم علماء الضلال والسوء ما سموه بفقه السترة وقد دافعوا عن هذا القانون بأنه يعيد المال العام إلى خزينة الدولة حتى وإن لم يكتشفه المراجع العام.
بهذا القانون تكون الدولة قد أمسكت يد النائب العام الذي لاحق كثيراً من الأفراد والشركات والمصالح الحكومية، بعد أن أطلقت الحكومة يده في محاولة منها لنفي تهمة الفساد عنها وإعطاء مؤشر أنها تحارب الفساد مما يؤهل الحكومة لخوض الانتخابات القادمة ويدها نظيفة من الفساد، ويعطي مصداقية أن هناك إصلاحاً حقيقياً تقوم الحكومة بتنفيذه.
نعم قد يسترد هذا القانون مبالغ كبيرة إلى خزينة الدولة ولكن شأنه شأن أي قانون وضعي فإنه يفتح أبواب الفساد على مصارعيها، إذ إن أي إنسان تسول له نفسه أخذ المال العام فإنه لا يخاف رادعاً يردعه، وأكثر ما يتوقعه أن يرد المال الذي أخذه ويستمتع بما حققه من أرباح ناتجة من استثماره لهذا المال وبهذا يكون قد دُفع الناس دفعاً نحو الفساد. وفي هذا المقام أذكر حادثة ابني سيدنا عمر حينما أعطى أحد الولاة مالاً لابني سيدنا عمر ليعطيانه لخليفة المسلمين، فتاجرا بذلك المال وحينما وصلا إلى المدينة ردا المال إلى خليفة المسلمين وأمسكا ربحهما فسألهما سيدنا عمر رضي الله عنه عن المال الذي بأيديهما فحكوا له القصة فأخذ منهما الربح بحجة أن رأس المال ليس ملكاً لهما.
إن هذا القانون ما وضع إلا لحماية كبار المفسدين كي لا يطيح بالرؤوس الكبيرة وأصحاب المقامات السامية وذلك بكف يد النائب العام من ناحية التحري والملاحقة، ومن ناحية ثانية فإن صغار المفسدين لو طالتهم يد القضاء فإنهم سوف يتبنون مقولة “علي وعلى أعدائي” وهذا الأمر يجر أناساً ما ينبغي لأمثالهم في ظل هذه الأنظمة الفاسدة أن يطالهم القانون.
إن فساد النظام القائم على المصلحة أمر بديهي ولكن تختلف صوره وأشكاله وتتنوع أساليبه من بلد إلى آخر، وقد تحدث أحد الوزراء قائلاُ أن أمريكا بها الفساد، نعم إن أمريكا بها فساد وبريطانيا بها الفساد وفرنسا بها الفساد فساد مالي وأخلاقي وإعلامي، وهذه حقيقة، ولكن هل إذا كان بهذه الدول فساد أيعني هذا أن عمل الفساد عملٌ مبرَّر؟
إن الذي يمنع الفساد ويجتثه من جذوره هي تقوى الله التي تجعل الفرد عفيفاً وتجعل الحاكم عفيفاً وقيماً على المال العام. وها هو سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقاسم معاوية بن أبي سفيان المال الذي جاء به من الشام لمجرد وجود شبهة أنه استغل مركزه فربح هذا المال، فقد قاسمه حتى حذاءه. فالأمر أمر تقوى وخوف من الله، والكل يعلم حادثة سيدنا عمر حينما انتصر المسلمون على الفرس وفتحوا المدائن عاصمة كسرى وجلبوا الجواهر والمال الكثير إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتعجب من أمانة هؤلاء الذين أتوا بهذه الثروة الهائلة فقال: “إن قوماً أدوا هذا لأمناء”، وسمع الإمام علي قولة عمر فقال له: “عففت فعفوا ولو رتعت لرتعوا”.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
المهندس حسب الله النور