أحداث جسام من تاريخ الإسلام
أيها السادة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأدعو الله أن يلهمنا السداد في القول والعمل وأن يكون عملنا خالصاً لله تعالى.
موضوعنا اليوم هو أحداث جسام من تاريخ الإسلام:
لقد حدثت في العشرين سنة الأخيرة من الأحداث الجسام والتغيرات الكبرى ما كان يحتاج لقرن أو قرنين من الزمان لإنجازه.
الحدث الأول: هو فشل فكرة الاشتراكية الماركسية وانهيار الاتحاد السوفيتي وتفككه دون أن يطلق أحد النار عليه ودون أن يحاصر ولو ليوم واحد حدث كل هذا بسبب فشل فكرة الاشتراكية الماركسية مما أرغم دعاتها وأنصارها على نبذها والتخلي عنها والتنكر لها لأنها فكرة خبيثة تخالف الفطرة الإنسانية ولا تستطيع أن تقنع العقل وبالتالي فلم تجلب الطمأنينة لأهلها.
أما الحدث الثاني: فهو انهيار مكانة الرأسمالية الغربية في الربع الأخير من عام 2008 بعد أن تغنى أنصارها ومعتنقوها بأفكارها وبخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتخليه على فكرة الاشتراكية الماركسية، وعدوا ذلك انتصارا مدويا لهم. لقد كانت أحداث الربع الأخير من العام 2008 أحداثا مدوية هزت الرأسمالية هزةً عنيفة وبددت ثقة العالم الغربي بنفسه وبحضارته، وأصبحت الرأسمالية سبة عار يلعنها حتى دعاتها، وأصبح الكثير من دعاتها ومفكريها يوقنون أنها فكرة فاشلة وخبيثة، لأنها أيضا تخالف الفطرة الإنسانية وعاجزة عن إقناع العقل وجلب الطمأنينة لبني الإنسان، بل وأصبح الكثير من مفكريها يدعون لأخذ بعض أفكار الإسلام في النواحي الاقتصادية، وأدرك العقلاء منهم أن الربا وعدم اتخاذ الذهب والفضة عملة بالإضافة إلى نظرتهم الخاطئة للملكية وغير ذلك، كل ذلك جعل الكثيرين يدركون أن أيام سيطرة الرأسمالية قد ولت وأن الحضارة الغربية إلى زوال حتماً.
أما الحدث الثالث: فهو الهجمة الرأسمالية الشرسة على الإسلام والمسلمين إذ أدرك المسلمون أنهم هم المستهدفون مما أقنع الكثيرين منهم بضرورة التمسك بدينهم وبخاصة بعد أن رأوا عفن الرأسمالية رأي العين بعد احتلال أفغانستان والعراق وما قام به يهود من ضرب للمسلمين في غزة مؤيدين بالدول الكافرة المستعمرة وعلى رأسها أمريكا ودول أوروبا.
إن تداعيات هذه الأحداث الثلاث تفرض على المسلمين مهمات عظيمة إذ أصبحوا هم وحدهم بما لديهم من الفكرة الصحيحة والثروات الهائلة والملايين من الشباب المتحرق لإقامة شرع الله ومن عالم إسلامي مترامي الأطراف يشكل أمة واحدة مهما تعددت لغاته وشعوبه وبما لديهم من مواقع إستراتيجية لا غنى للعالم عنها أصبحوا كما قلنا هم وحدهم المؤهلين لإنقاذ البشرية من الظلمات إلى النور.
لقد ولى الزمان الذي كان المسلمون متشككين في قدرة دينهم على حل مشاكلهم ومشاكل البشرية بل أصبح المسلمون في طول العالم وعرضه يدركون أن لا خلاص للبشرية إلا بالإسلام وبإقامة دولة الخلافة وأنه آن الأوان لإقامة دولة إسلامية مبدئية.
لقد أصبح الإسلام قبل أن تقوم له دولة ينتشر في أوروبا وفي العلام الغربي انتشار النار في الهشيم مما أجبر الكثير من مفكري وسياسي أوروبا وأمريكا على الخوف على حضارتهم فأخذوا يرسمون الخطط لإبعاد المسلمين عن دينهم ويطالبون علنا بذوبان المسلمين في مجتمعاتهم الغربية.
أيها السادة: إن تاريخ الإسلام مليء بالأمثلة على سرعة انتشار الإسلام وسرعة اعتناق الشعوب غير المسلمة للإسلام، وليعلم شباب الإسلام أن لديهم تاريخ عريق، وأنهم وحدهم المؤهلون لإنقاذ البلاد والعباد من الكفر وأهله، وسأبين في عجالة كيف استطاع المسلمون في بلاد المغرب من إقامة دولة إسلامية أو إمارة إسلامية لملمت شعث الأمة وأنقذت البلاد والعباد من دعاة الكفر وثبتت أركان سلطان الإسلام في المغرب مئات السنين، هذه الإمارة هي إمارة المرابطين فكيف نشأت هذه الإمارة وكيف تمكنت في فترة وجيزة من إعلاء شأن الإسلام والمسلمين.
نشأت هذه الإمارة أيها السادة نشأة فكرية صحيحة على يد عالم جليل هو الشيخ عبد الله بن ياسين في مكان اعتبره المؤرخون مكانا هامشيا، فلقد أعد شيخنا عدته الفكرية وألقاها على عشرات من المسلمين ازدادوا إلى بضع مئات رابط بهم في جزيرة تقع في مصب نهر السنغال في غرب إفريقيا لا تتعدى مساحتها بضع كيلو مترات مربعة، والرباط أيها السادة هو مكان يستقر أو يرابط فيه بضع عشرات أو بضع مئات يحبسون أنفسهم للجهاد في سبيل الله ورد غارات الفرنجة البحرية عن سواحل المسلمين الواقعة على شواطئ الأطلسي والمتوسط، وكان هؤلاء المرابطون وأمثالهم يعملون كخلية النحل في التدرب على القتال وفي تأمين المؤن اللازمة لهم وتأمين السلاح، لقد كانوا حقاً مثالا للإخلاص الخالص لله تعالى لا يكلفون الدولة ولا الناس أية تكاليف تذكر، وقد نجح هذا الأسلوب في مطاردة الفرنجة أيما نجاح حيث كانت هذه الأربطة تشمل ساحل بلاد المغرب الأقصى والأوسط.
في رباط جزيرة السنغال بدأ شيخنا انطلاقته لحمل راية الإسلام وتوحيد بلاد الإسلام وقد أختار شيخنا لحمل هذه الأمانة فارسا ورجل دولة من الطراز الأول هو يوسف بن تاشفين، حيث رأى فيه المؤهلات اللازمة لقيادة المسيرة، وهذا وأيم الله هو قمة الإيثار وقمة الإخلاص الخالص لله عز وجل، حيث رأى شيخنا أنه ليس مؤهلا لقيادة المسيرة. انطلق الأمير يوسف محاطا بحاشية خالصة مخلصة وعلى رأسها أستاذه وشيخه عبد الله بن ياسين، خرج أميرنا من جزيرة السنغال بمرابطين لا يزيد عددهم عن الألف مجاهد فأخضع المناطق المحيطة بمصب نهر السنغال ثم حمل الإسلام جنوب السنغال وأخضع بلاد واسعة جنوب السنغال للإسلام فأقبل الجميع على حمل الإسلام تحت قيادة أمير زاهد مجاهد فذ تحطوه حاشية لا تبتغي إلا رضوان الله عز وجل، ودخلت أعداد كبيرة من الأفارقة الإسلام وأصبحوا جنودا أوفياء، وبعد أن أمن الجبهة الجنوبية لنهر السنغال عبر أميرنا نهر السنغال إلى بلاد شنقيط وضمها إلى إمارته، ثم سار بمن معه متوغلا في الصحراء شرق السنغال وشرق بلاد شنقيط، فدانت له بلاداً واسعة، وأصبحوا جميعاً كتلة واحدة، تتشوق لحمل الإسلام شمالا لتوحيد بلاد المغرب التي كانت منقسمة على نفسها وتخوض صراعاً قبلياً أهلك الحرث والنسل، وسفكت دماء غزيرة هدرا نتيجة ذلك الصراع المرير الذي حدث بين قبيلتي زناته وصنهاجه، ولم تهن على أميرنا يوسف بن تاشفين هذه الأعمال الفظيعة من الفساد والإفساد وسفك الدماء وإهلاك الحرث والنسل فتقدم إلى جنوب بلاد المغرب الأقصى واستطاع أن يوحد هذه البلاد ويزيل هذا الصراع الرهيب فأصبحت البلاد الواقعة جنوب نهر السنغال وشماله بالإضافة إلى أجزاء واسعة من غرب افريقيا والصحراء وجنوب بلاد المغرب كتلة واحدة متراصة فأسس أميرنا بلدة مراكش لتكون عاصمة لإمارته، أسسها لتكون مدينة بسطة في عمرانها قوية في فكرها وعقيدتها زاخرة بمجاهيدها وأهل الفكر والصلاح فيها، فكان موعد أميرنا مع المجد إذ سير جيوش الإسلام شمالا ليضم باقي بلاد المغرب الأقصى إلى إمارته وليطل على سواحل البحر المتوسط بالإضافة لسواحل المحيط الأطلسي وليكون وجها لوجه أمام صلف الفرنجة وغطرستهم ومحاولاتهم طرد المسلمين من الأندلس، ولما رأى أهل المغرب الأوسط ما كان يتمتع به إخوانهم أهل المغرب الأقصى من عزة ومجد وسؤدد، أرسلوا الوفود تلو الوفود تدعو أميرنا ابن تاشفين لضم بلاد المغرب الأوسط فكان لهم ما أرادوا إذ سير أميرنا حملات لضم هذه البلاد والتي لم تجد إلا الترحيب بمقدم شباب المرابطين، فأصبحت بلاد المغرب الأوسط والأقصى بالإضافة إلى أجزاء واسعة من الصحراء وبلاد شنقيط (موريتانيا) ومساحات شاسعة شمال وجنوب نهر السنغال تحت حكم أميرنا ابن تاشفين، وفي هذه الأثناء توفي شيخنا عبد الله بن ياسين ورغم فداحة المصاب إلا أن إمارة المرابطين لم تتأثر كثيرا بفقده لأن شيخنا وضع اللبنة القوية في أساس إمارة المرابطين حيث أسسهم على التقوى والجهاد والإخلاص الخالص لله وحده، فظلت إمارة المرابطين تعلو من علي إلى أعلى إلى أن كان لها موعد مع المجد في الأندلس، فبمجرد وصول المرابطين سواحل البحر المتوسط وإطلالتهم على المضيق عرفوا عظمة وفظاعة ما ينتظر المسلمين في الأندلس، الذين كانوا يخضعون لملوك الطوائف تماماً كما نخضع الآن لملوك وحكام أقل شأنا وأفظع وضاعة من ملوك الطوائف، وبلاد المسلمين على طول تاريخ الإسلام لم تكن مقفلة في وجوه المسلمين من أي قطر أو قوم ولم تعرف بلاد الإسلام مفهوم الحدود إلا في هذا العصر بعد اتفاقيات سايكس وبيكو وغيرها من الاتفاقيات الاستعمارية التي قسمت بلاد المسلمين إلى أكثر من سبعة وخمسين قسما، أقول لم تكن بلاد المسلمين مقفلة فأطل المرابطون على الأندلس وعبر التجار المسلمون وكل راغب في التنقل إلى المضيق من جهتيه، الأندلسيون كانوا ينتقلون إلى بلاد المغرب دون قيود، وكذلك المرابطون ينتقلون إلى الأندلس دون قيود، ولما رأى أهل الأندلس أن الأخطار تحُدق بهم من الفرنجة، وكذلك رأى علماء المسلمين في عدوتي المضيق حال المسلمين في الأندلس، تاقت نفوس الأندلسيين لمن يحميهم من أهل المغرب، فوجدوا المرابطين أهلا لذلك، فاستنجد المعتمد بن عباد أمير اشبيلية بابن تاشفين، ولما نهاه أحد مستشاريه عن الاستنجاد بابن تاشفين قال قولته المشهورة ((لأن أكون راعياً لإبل ابن تاشفين خير لي من أن أكون راعياً لخنازير الفونسو الخامس)) وهب أمير المرابطين لنجدة أهل الأندلس، وما هي إلى أشهر قليلة وتندلع معركة الزلاقة بين المسلمين بقيادة ابن تاشفين والفرنجة بقيادة الفونسو الخامس، ويشاء الله أن ينصر الإسلام وأهله، فانتصر المسلمون في الزلاقة انتصارا هائلاً دوت أخباره في أوروبا وبلاد المغرب وكان من العظمة أن منع الفرنجة من مهاجمة المسلمين مائتي عام وبذلك أخرت الزلاقة سقوط سلطان الإسلام في الأندلس مائتي عام، ولما رأى أهل الأندلس عدل وإخلاص ابن تاشفين ألحوا عليه بخلع ملوك الطوائف ولم يتسرع الأمر، خوفا من أن يظن أهل الأهواء به الظنون ويتهمونه أنه من طلاب الدنيا وطلاب الإمارة، ولكن عقلاء الأندلس خلعوا بيعة ملوك الطوائف وبايعوا أميرنا ابن تاشفينن عندها لم يجد مناصا من تحقيق رغبة المسلمين فخلع ملوك الطوائف وأصبحت الأندلس جزءاً من إمارة المرابطين، ولم يكتف أميرنا بذلك، لم يكتف أميرنا بهذا المجد، وإنما أضاف مجداً آخر لأمجاده فأرسل وفدا منه إلى الخليفة في بغداد وأعلن خضوع إمارة المرابطين للخلافة في بغداد ولتكون إمارة المرابطين جزءاً من الخلافة الإسلامية. أتدرون أيها السادة كم استغرق هذا البناء الضخم لإمارة المرابطين التي كانت مساحتها تزيد على خمسة ملايين كيلو مترا مربعا وتضم تحت رايتها أقواماً شتى وقبائل شتى جمعها الإسلام في بوتقة واحدة هي بوتقة الإسلام، لقد استغرق هذا البناء أقل من جيل واحد، أي أقل من ثلاثين عاما.
لقد أردت من هذا أيها السادة أن أوضح لكل من يوسوس له الشيطان أن قيام دولة الإسلام دونه طرق القتاد، أي من المستحيل، أردت أن أبين أن الإسلام دين الله موافق لفطرته يقنع العقل وتطمئن به النفس وأنه أذا لامس القلوب فسرعان ما تتفانى هذه القلوب في حمله والاستماتة في نشره.
أيها السادة: لقد وعدنا بإظهار الإسلام على الدين كله، قال تعالى: ((هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)) وأن وعد الله حق ولكن أكثر الناس لا يعلمون فالله نسأل أن يعزنا بالإسلام ويجعلنا ممن ينال شرف رفع رايته والله غالب على أمره وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أبو بكر