شيوخ الفتاوى الجاهزة… أسلحة في يد النظام
يعيش الشارع التونسي ضغطا كبيرا جراء الحملة الانتخابية التي تقوم بها بعض الجهات طلبا للحكم والكرسي، وفي هذه الظروف يطلع علينا أناس ممن لهم تأثير على الناس يخوضون في الشأن العام وأغلبهم إما يحملون أتباعهم لهواهم أو لمصلحة جهة بعينها.
في هذا السياق وبعد غياب طويل عن الساحة، يطلع علينا الشيخ بشير بن حسن ليدلي برأيه متوجها لأتباعه ومريديه في مسألة الانتخابات، وقد أخطأ الشيخ وأضل كثيرا في هذا السياق.
قال الشيخ أن الانتخابات أمر مستحدث ولم يكن على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، ولا ندري هل هذا نسيان منه أم تجاهل متعمد. إن الانتخابات أسلوب اختيار قديم قدم البشرية ولم تكن العرب لا في جاهليتها ولا في عهد الإسلام بدعاً من الناس ولا متفردة بعدم تبني هذا الأسلوب في اختيار الأكفأ من بين الناس ليقوم بالوكالة عنهم… فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصار بعد أن تمت بيعة العقبة الثانية: «أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا، لِيَكُونُوا عَلَى قَوْمِهِمْ بِمَا فِيهِمْ كُفَلاء» وهذا دليل على أن الأنصار الخمسة وسبعين انتخبوا من بينهم من يمثلهم وكانوا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. هذا في ما يخص ادعاءه أن الانتخابات لم تكن على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم . ولكن الأهم في فتواه ليس هذا ولكن فتواه بوجوبها بناء على عدة مغالطات وهي كالأتي:
أما الأولى فإنه لم يبحث البحث الصحيح في واقع مسألة الانتخابات بالرغم من أنه لمّح لها في قوله الانتخابات وسيلة والوسائل تؤخذ بمقاصدها، وخطؤه في الاستدلال بقاعدة الوسيلة إلى الحرام حرام.
فالحرام هو فصل الدين عن الحياة من خلال المشاركة في منظومة تحارب الإسلام علنا.
فالذين سيقع انتخابهم هم في الأصل من شاركوا في تشريع هذه القوانين بعيون الغرب الكافر المستعمر وهم الآن يتنافسون على ضمان حسن سيرها على الوجه الذي يرضي أسيادهم.
فالإشكالية هي هل يجوز للمسلمين أن يرضوا بأن يحكموا بغير ما أنزل الله ولهم الفرصة بأن يقيموا شرع الله؟ فكان الأصل أن يبين الشيخ للناس حقيقة الديمقراطية العفنة والنظام الرأسمالي المتوحش الذي يخالف الفطرة ويناقض العقل ولا يملأ القلب إلا نكدا والحياة ضنكا.
والثانية مسألة الشهادة فقد استدل الشيخ بقول الله عز وجل ﴿وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ ولكنه نسي أو تناسى أن للشهادة نوعاً ثانياً وهو شهادة الزور وشهادة الباطل مقابل شهادة الحق. الشهادة تكون واجبة في حال قول الحق وللحق.
أما الشهادة لشخص بالأفضلية في ظل نظام فاسد فهي شهادة زور لأن الإنسان السوي لا يمكن أن يدخل في منظومة مبنية على خراب وفساد حتى من باب محاولة الإصلاح ما أمكن وإلا لرضي الرسول صلى الله عليه وسلم بمقترحات الكفار حين قالوا له “نعبد إلهك عاما وتعبد آلهتنا عاما” وحين قالوا “يكون لنا الملك من بعدك” ولكنه رفض صلى الله عليه وسلم لأن هذا الدين يؤخذ من كل جوانبه. يقول الله عز وجل ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ فالدعوة لتطبيق الإسلام تكون دعوة لتغيير جذري انقلابي للوضع حسب طريقة سير معينة انتهجها الرسول صلى الله عليه وسلم قد تختلف وسائلها وأساليبها اليوم ولكنها ثابتة وهي إيجاد رأي عام منبثق عن وعي عام عند الأمة فتنقلب على الحكام الضرار وتسلم الحكم لمن يحمل مشروعاً يقوم على أساس الإسلام عقيدة ونظاما.
ثالثا الحكم الشرعي جاء ليعالج سلوك الناس وينظم العلاقات بينهم وفق ما تقتضيه فطرة الإنسان.
والواجب على الفقيه أو المجتهد أن يبحث المسائل بوصفها مسألة إنسانية تحتاج إلى حكم الله فيها لا بوصفها متعلقة بأمر سياسي أو قضية اقتصادية أو اجتماعية فيطغى بحث المصلحة والنفع والضرر فيها على بحث مراد الله من الحكم الشرعي.
فيفهم أولا واقعها ومناطها ثم يستفرغ وسعه في الإحاطة بالأدلة من قول الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما أرشدا إليه من إجماع الصحابة والقياس ويبذل جهده في فهم الأدلة حتى يصل إلى مراد الله عز وجل.
فقاعدة (درء المفاسد مقدم على جلب المفاسد) هي من القواعد الدخيلة على الفقه الإسلامي وأضرت به. لأن الأحكام لا تؤخذ بالمنفعة أو الضرر لقول الله ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ وقد يحرم الله ما يحقق منفعة دنيوية ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾ والإثم هنا مسألة غيبية والنفع مسألة حسية فلا يقال حرم الله الخمر والميسر لأجل الضرر وإنما حرمهما ليطاع ولله الشأن كله.
إن تحقيق العدل والمصلحة يكون بإقامة حكم الله على الوجه الذي يريده بالكيفية التي أمر بها ومثل ما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان على الشيخ أن يبحث واقع النظام والمنظومة لأن العقل البشري لا يمكنه تحديد المصلحة والمفسدة إلا في نطاق آني وقتي ضيق وأحكام الإسلام هي أحكام تعالج متطلبات الإنسان بوصفه إنساناً أينما كان ومتى ما كان إذا تحقق مناطها.
كنا نظن أن غياب الشيخ طوال الفترة السابقة، وتصريحه بعدم الخوض في السياسة جعله يتوب عن الدور الذي كان يقوم به سابقا من تضليل للرأي العام لصالح جهات معينة معلومة وإنه تفرغ لتعليم الناس فقه العبادات والسير لعل الله يكفر بهذا عما سلف منه.
لكنه أبى إلا أن يواصل في نفس الأجندة التي جاء من أجلها لتونس وهي تحويل وجهة الصحوة الإسلامية بما يضمن زيادة في عمر الأنظمة وتعطيل كل من يحمل دعوة لإقامة الإسلام بوضع إشكاليات ليست واقعية وليست حقيقية كالفرق بين الفرق والمذاهب.
فانصحوا الشيخ في ما تبقى له من عمر أن يتقي الله في ما يحمل من علم ولا يكون شاهد زور وداعية على أبواب جهنم وليحذر أن يكون من الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «الفقهاء أمناء الرسل، فإذا رأيتم الفقهاء قد ركنوا إلى السلاطين فاتهموهم» وقوله صلى الله عليه وسلم : «إِيَّاكُمْ وَأَبْوَابَ السُّلْطَانِ، فَإِنَّهُ قَدْ أَصْبَحَ صَعْبًا هُبُوطًا». رواه الطبراني والديلمي، وصححه الألباني.
إن خير هذا البلد وسائر أمة الإسلام يكون باستكمال الثورة على من ركن للنظام ورموزه من بقي منهم ومن حالفهم ومن دعا لهم وأجابهم لدعوته. يقول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾، ويقول صلى الله عليه وسلم: «أَلا إِنَّ رَحَى الإِسْلامِ دَائِرَةٌ فَدُورُوا مَعَ الْكِتَابِ حَيْثُ دَارَ، أَلا إِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّلْطَانَ سَيَفْتَرِقَانِ فَلا تُفَارِقُوا الْكِتَابَ، أَلا إِنَّهُ سَيكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يَقْضُونَ لأَنْفُسِهِمْ مَا لا يَقْضُونَ لَكُمْ، إِنْ عَصَيْتُمُوهُمْ قَتَلُوكُمْ، وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ أَضَلُّوكُمْ».
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
أسامة بن شعيب – تونس