مع الحديث الشريف من استأجر أجيرًا
نُحَيِّيكُمْ جَمِيعًا أيها الأَحِبَّةُ الكِرَامَ فِي كُلِّ مَكَانٍ, نَلتَقِي بِكُمْ فِي حَلْقَةٍ جَدِيدَةٍ مِنْ بَرنَامَجِكُم “مَعَ الحَدِيثِ النَّبوِيِّ الشَّرِيفِ” وَنَبدَأ بِخَيرِ تَحِيَّةٍ وَأزكَى سَلامٍ, فَالسَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ:
رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «… وَمَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ».
خَلَقَ اللهُ تَعَالَى النَّاسَ وَجَعَلَهُمْ مِنْ حَيثُ الغِنَى وَالفَقْرُ دَرَجَاتٍ؛ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا قَالَ تَعَالَى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ. وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ). (الزخرف 33) وَقَد شَرَعَ اللهُ الإِجَارَة لِعِبَادِهِ, وَشَرَعَ لِلإِجَارَةِ أحكَامًا تَيسِيرًا عَلَيهِمْ, وَحِفَاظًا عَلَى حُقُوقِ المُؤَجِّرِينَ وَالمُستَأجِرِينَ. فَمَا هِيَ الإِجَارَةُ؟ مَا تَعرِيفُهَا؟ وَمَا أنوَاعُهَا؟ وَمَا أدِلَّةُ مَشرُوعِيَّتِهَا مِنَ الكِتَابِ وَمِنَ السُّنَّةِ؟ وَهَلْ مَارَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَأصحَابَهُ رَضِيَ اللهُ عَنهُمُ الإِجَارَةَ؟
تعريفها: الإِجَارَةُ هِيَ عَقْدٌ لازِمٌ, عَلَى مَنفَعَةٍ مَعلُومَةٍ, لِمُدَّةٍ مَعلُومَةٍ, بِثَمَنٍ مَعلُومٍ.
أنواعها: عُقُودُ الإِجَارَةِ ثَلاثَةُ أنوَاعٍ:
1. النوع الأول: عُقُودٌ عَلَى مَنَافِعِ الأعيَانِ, أي الأَشيَاءِ كُلِّ شَيءٍ بِعَينِهِ وَذَاتِهِ: كاستِئجَارِ المَحِلاتِ التَّجِاَرِيَّةِ, وَالدُّورِ, وَالدَّوَابِّ وَالمَركَبَاتِ أو السَّيارَاتِ الصَّغِيرَةِ وَالكَبِيرَةِ.
2. النوع الثاني: عُقُودٌ عَلَى مَنَافِعِ الأَعمَالِ: كَاستِئجَارِ أرْبَابِ الحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ لأَعمَالٍ مُعَيَّنَةٍ. فَالمَعقُودُ عَلَيهِ هُوَ المَنفَعَةُ التِي تَحصُلُ مِنَ العَمَلِ, كَاستِئجَارِ الصَّباغِ وَالمُهَندِسِ وَالبنَّاءِ وَالحدَّادِ وَالنجَّارِ وَغَيرِهِمْ.
3. النوع الثالث: عُقُودٌ عَلَى مَنَافِعِ الأَشخَاصِ: كَاستِئجَارِ الخَدَمِ وَالعُمَّالِ لِلقِيَامِ بِأعمَالٍ مُعَيَّنةٍ.
وَالإِجَارَةُ بِجَمِيعِ أنوَاعِهَا جَائِزَةٌ شَرْعًا. وَالأَدِلَّةُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ القُرآنِ الكَرِيمِ وَمِنَ السُّنةِ النَّبوِيَّةِ القَولِيَّةِ وَالفِعلِيَّةِ كَثِيرَةٌ مِنهَا:
1. قوله تعالى: (فَإِنْ أرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ(. (الطلاق6)
2. قَولُهُ تَعَالَى: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ). (القَصَص26)
3. وقوله تعالى: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ. قَالَ ذَٰلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ). (القصص28)
4. وقوله تعالى: (فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا). (الكهف77)
5. وَمِنَ الأَدِلَّةِ الشَّرعِيَّةِ عَلَى جَوَازِ الإِجَارَةِ قَولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ استَأجَرَ أجِيرًا فَلْيُعلِمْهُ أجْرَهُ».
6. وَمِنهَا أيضًا فِعْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: فَقَدِ استَأجَرَ هُوَ وَأبُو بَكرٍ الصِّدِّيقُ فِي هِجرَتِهِمَا إِلَى المَدِينَةِ رَجُلاً مِنْ بَنِي الدَّيلِ هَادِيًا خِرِّيتًا, أي دَلِيلاً ماهرًا, خَبِيرًا بِالطُّرُقِ يُرشِدُهُمَا إِلَى طَرِيقٍ آمِنٍ بَينَ مَكَّةَ وَالمَدِينَة.
وَمِنَ الأَحكَامِ الشَّرعِيَّةِ التِي شَرَعَهَا اللهُ لِلإِجَارَةِ أن يُعطَى الأَجِيرُ أجْرَهُ بِمُجَرَّدِ أنْ يُنهِيَ عَمَلَهُ, وَقَبلَ أنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ, هَذَا هُوَ الأَصلُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «أعطُوا الأجِيرَ أجرَهُ قبلَ أنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ». وَلَكِنْ إِذَا اتَّفَقَ المُتَعَاقِدَانِ عَلَى تَأجِيلِ الدَّفعِ إِلَى وَقْتٍ مَا بَعدَ إِنجَازِ العَمَلِ, جَازَ ذَلِكَ. وَقَدْ شَدَّدَ الإِسلامُ عَلَى ضَرُورَةِ إِعطَاءِ الأَجِيرِ أجْرَهُ, فَحَرَّمَ عَلَى مَنِ استَأجَرَ أجِيرًا أنْ يَأكُلَ حَقَّ الأجِيرِ, لِدَرَجَةِ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أخبَرَنَا أنَّ مَنِ استَأجَرَ أجِيرًا فَاستَوفَى مِنهُ العَمَلَ, وَلَمْ يُعطِهِ أجْرَهُ, يَكُونُ اللهُ تَعَالَى خَصْمَهُ يَومَ القِيَامَةِ, وَمَنْ كَانَ اللهُ تَعَالَى خَصْمَهُ فَلَنْ يُفلِحَ أبَدًا, قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَروِيهِ عَنِ اللهِ تَعَالَى: «ثَلاثَةٌ أنَا خَصْمُهُمْ يَومَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أعطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ, وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأكَلَ ثَمَنَهُ, وَرَجُلٌ استَأجَرَ أجِيرًا, فَاستَوفَى مِنهُ, وَلَمْ يُوَفِّهِ أجْرَهُ». وأيضًا فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَغفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعَهَا عَدَا الشِّركَ بِاللهِ, وَعَدَا حُقُوقَ العِبَادِ وَمِنهَا الحُقُوقُ المَالِيَّةُ, فَإِنَّها تَبقَى مُعَلَّقَةً حَتَّى يَأخُذَ صَاحِبُ الحَقِّ حَقَّهُ مِمَّنْ ظَلَمَهُ, أوْ حَتَّى يُسَامِحَهُ صَاحِبُ الحَقِّ. عِلْمًا بِأنَّ التَّعَامُلَ بِشَأنِ الحُقُوقِ المَالِيَّةِ يَومَ القِيَامَةِ, لا يَكُونُ بِالمَالِ بَلْ بِالحَسَنَاتِ وَالسَّيئَاتِ, فَمَنْ كَانَ عَلَيهِ مَظلِمَةٌ مَالِيَّةٌ لأخِيهِ, فَإِنَّ المَظلُومَ يَأخُذُ مِنْ حَسَنَاتِ الظَّالِمِ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلظَّالِمِ حَسَنَاتٌ, أوْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ, أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ المَظلُومِ وَطُرِحَتْ فَوقَ سَيِّئَاتِ الظَّالِمِ, فَهُوَ يَتَعَذَّبُ بِهَا إِلَى مَا شَاءَ اللهُ.
احبتنا الكرام: نَشكُرُكُم عَلى حُسنِ استِمَاعِكُم, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, وَالسَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
الأستاذ محمد أحمد النادي – ولاية الأردن