لا مانع من أن يكون الخليفة من بولاق الدكرور
سبحان الله العظيم! أصبحت “المحافظة على الدين والتمسك بالهوية” قوالب سخيفة يجب التخلص منها، وأصبحت الخلافة “أفيونة” والعمل على استعادتها تمثل حالة “شبق نفسي أسطوري”! هذا ما يقرره مصطفى النجار البرلماني السابق في زمن الرويبضات في مقاله المنشور على موقع التقرير تحت عنوان “ولماذا لا يكون الخليفة من بولاق الدكرور”.
لقد ظن السيد مصطفى النجار أنه نسف فكرة الخلافة من خلال استغرابه تبني البعض أن يكون الخليفة قرشيًا، وأقول البعض وليس كما يدعي السيد المبجل في مقاله أن هناك إجماعًا على ذلك. وبرغم أنه تناول المسألة من ناحيةٍ شرعيةٍ فرفضها، ونحن نراها شرط أفضلية وليس شرط انعقاد، إلا أن الغريب قوله: (أنه سلك سبيل الاستدلال الشرعي فقط لأن هؤلاء “يعني الإسلاميون” يحبذون الاستدلال الشرعي، بينما هو يرى أنه لم يكن يحتاج لاستدعاء الآيات والأحاديث، لأنه يرى أن هذا الذي يتحدث فيه هو أمر دنيوي لا علاقة للدين به). سبحان الله! لا علاقة للدين بوضع شروط يجب أن تتوفر فيمن سيحكم المسلمين بالإسلام، وكأن أمر السياسة ورعاية الشؤون أمر دنيوي كتأبير النخل وخطط الحرب والعلوم والرياضيات، وكأن الدين جاء لأمور الحيض والنفاس فقط، ما لكم كيف تحكمون؟!
لقد وردت في صفات الخليفة أدلة كان الطلب فيها طلباً غير جازم كقوله عليه الصلاة والسلام: «إن هذا الأمر في قريش» [رواه البخاري من طريق معاوية]، فإنه إخبار وصيغة الإخبار وإن كانت تفيد الطلب ولكنه لا يعتبر طلبًا جازمًا ما لم يقترن بقرينة تدل على التأكيد، ولم يقترن بقرينة تدل على التأكيد ولا من رواية صحيحة. أما ما ورد في الحديث «لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين» فإنه نهي عن معاداتهم وليس تأكيداً لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الأمر في قريش». هذا فضلاً عن أن كلمة قريش اسم وليس صفة ويقال له في علم الأصول لقب، ومفهوم الاسم أي اللقب لا يُعمل به لأن الاسم أي اللقب لا مفهوم له. ولذلك فإن النص في قريش لا يعني أن لا يُجعل في غيرهم.
وعليه فإن هذا الحديث يدل على شرط أفضلية وليس على شرط انعقاد، لعدم وجود قرينة تصرف الطلب للجزم، بل إن هناك قرينة تصرفه إلى عدم الجزم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حين عرض نفسه على قبيلة عامر بن صعصعة وقالوا له: أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: «إن الأمر لله يضعه حيث يشاء» [رواه بن اسحق عن الزهري]، فإنه يدل على أن الطلب غير جازم، لأن جواب الرسول صلى الله عليه وسلم يدل على جواز أن يكون الأمر لهم من بعده صلوات الله وسلامه عليه، ويجوز أن يكون لغيرهم، ما يدل على أن شرط القرشية هو شرط أفضلية. ولهذا نحن نقول للأستاذ مصطفى لا مانع أن يكون الخليفة من بولاق الدكرور إذا توفرت شروط الانعقاد فيه.
والأستاذ مصطفى النجار برغم بحثه في شرط القرشية للخلافة، يقرر دون خوف أو وجل ما يعتبره حقيقة لا مراء فيها وما يناقض بحثه السابق فيقول: “لم يفرض علينا الشرع أن نقيم شيئا اسمه الخلافة”، “ولم يأمرنا أن نقيم دولة للإسلام”، و”لن يضيرنا أن نحذف من أدبياتنا مفهوم الخلافة الذي أصبح عبئا على الدين”، وكل ما يقرره الرجل هنا يسهل علينا رده من خلال النصوص الشرعية التي تفرض علينا أن نقيم دولة الخلافة وليس “شيئا اسمه الخلافة”، ولكن حتى هذه النصوص يراها الرجل متفاوتة الصحة والتواتر، وأنه يجب تناولها اليوم بطرق لا تعتمد فلسفة الماضي، ولا أدري كيف يريد السيد مصطفى أن نتناولها اليوم؟! أظنه يريد للأمة أن لا تلتفت لمثل هذه النصوص برغم ثبوت صحتها، أو على الأقل يريد للأمة أن تتلقاها ضمن ظروف تاريخية محدودة لا يمكن إسقاطها على الظرف التاريخي الراهن الذي تهيمن فيه الحضارة الغربية والنظام الرأسمالي على عقله وعقول أمثاله ممن انضبعوا بالغرب وحضارته العفنة ودوله التي قامت على السلب والنهب واستعمار الشعوب.
إن الرجل ينظر لتاريخ أمته بمنظار أسود لا يرى من خلاله إلا تاريخاً أسود مليئاً بالصراعات والقتل والتدمير، وكأن المسلمين ودولتهم دولة الخلافة هم من تسببوا في قتل الملايين من البشر في حربين عالميتين، وهم من ألقوا بقنابل نووية على هيروشيما وناكازاكي، وهم من يخوضون حربا طويلة عريضة لقمع الشعوب ومنعها من الحراك والثورة على الظلم والطغيان.
يا عزيزي، دولة الخلافة هي دولة عظيمة ظلت مرهوبة الجانب لعقود طويلة كانت فيها هي الدولة الأولى في العالم، كانت منارة العلم والعلماء بينما كانت أوروبا تعيش عصور الظلام والجهل والتخلف، وها نحن قد أصبحنا في ذيل الأمم في ظل دول الضرار التي تحكمنا والتي بها صرنا شراذم ومزقاً نتبع سنن من كان قبلنا شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب العلمانية وفصل الدين عن الدولة دخلناه وراءهم.
وأخيرا فقضية كون الشرع قد تضمّن ما يتعلّق بسياسة الناس ورعاية شؤونهم، واشتمل على أحكام تنظّم لهم السلطان، وترتب لهم أمر الدولة شكلا ومضمونا، قضية يقينية معلومة من الدين بالضرورة. ومن نظر في القرآن والسنة القولية والعملية، وقف على حقيقة ما نقول، ووضع الإصبع على مئات النصوص المتعلّقة – بتعبير العصر – بالتشريع الحربي والسياسي والجنائي والاجتماعي والقضائي والاقتصادي والدبلوماسي وغير ذلك، مما يقطع بتضمّن الإسلام نظام حكم لا شبيه له ولا مثيل، هو أرقى ما عرفت البشرية. إن الخلافة فرض عظيم فرضه الله على هذه الأمة وهي نظام الحكم في الإسلام، فـ «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» وهو حديث صحيح رواه مسلم، وهي بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد، «ثم تكون خلافة على منهاج النبوة»، وحدوث إساءة في تطبيق الإسلام في بعض فترات حكم الخلافة لا يمكن أن يكون مدعاة لرفض الخلافة أبدا، كما لن يكون مقالك المتهافت هذا مدعاة لرفض الأمة لفكرة الخلافة التي آن أوانها وأظل زمانها وستكون كما بشرنا بها رسول الله خلافة راشدة على منهاج النبوة.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
شريف زايد
رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية مصر